الجمعة 20 سبتمبر 2024 الموافق 17 ربيع الأول 1446
رئيس مجلس الإدارة
خالد جودة
ads
رئيس مجلس الاداره
خالد جوده

الدكتور أسامة حمدي يكتب: جراح العظام الذي أنقذ الملايين

السبت 11/ديسمبر/2021 - 12:25 ص
هير نيوز


بمناسبة مرور 100 عام على اكتشاف هرمون الانسولين الذي انقذ حياة الملايين تذكرت زيارتي لالقاء محاضرة بجامعة تورونتو بكندا وزيارة المكان الذي عمل به جراح العظام الموهوب الذي اكتشف الانسولين. قرأت الكثير والكثير عن حياة فردريك پانتنج وفِي كل مرة يزداد إعجابي به أكثر وأكثر وأراه قدوة حقيقية لكل شبابنا من الأطباء الصغار لما لقصته من معني وما لحياته من عِبَر.

بعد إنتهاء الحرب العالمية الأولي لم يجد هذا الجراح ما يستطيع عمله فليس بامكانه فتح عيادة كما أن أجر المستشفيات ضئيل جداً إن وجد أصلاً عملاً. طرق فريدريك أبواب مستشفيات كندا بلا جدوى. وأخيرا قبلته جامعة تورونتو لتدريس بعض محاضرات الفسيولوجي وهو ما كان بعيدا تماما عن مجال عمله ولكنه قبل الفرصة الوحيدة المتاحة له. كانت أولى محاضراته عن مرض السكر الذي لا يعرف عنه شيئاً. إجتهد في التجهيز لمحاضرته وقراءة جميع المراجع المتاحة عن هذا المرض. وفِي أثناء تجهيزه لمحاضرته الأولى لاحظ أن الكثيرين من قبله أشاروا الى علاقة البنكرياس بالسكر فعند إستئصال البنكرياس في كلاب التجارب يصاب الكلب بالسكر ثم يموت في خلال أيام معدودة. ومن خلال خبرته الجراحية سأل نفسه ماذا لو أستطعت ربط قناة إفراز البنكرياس وتركت البنكرياس ليهضم نفسه بنفسه بعصارته الهضمية ثم أقوم ببزل هذه العصارة وترشيحها وحقنها في كلب آخر مصاب بالسكر بعد إستصال بنكرياسه. كانت الفكرة بمنتهى البساطة والعفوية بل والسطحية في حدود إمكانياته العلمية.

ذهب فريدرك بفكرته الى العديد من الأساتذة لمحاولة إقناعهم بفكرته ولطلب الفرصة لإجراء تجربته. لم يجد منهم سوى الصد والسخرية فهو بلا أى خبرة سابقة في البحث العلمي كما أنه كيف لجراح عظام أن يتقدم بفكرة من هذا النوع فَلَو كان ما يعتقده صحيحا لسبقه إليها الكثيرون من المتخصصين في هذا المجال من ذوي الخبرة. كان تعلثمه في عرض الفكرة وعدم قدرته الفورية على الإجابة علي أسئلة الأساتذة من أهم أسباب إقتناعهم بعدم جدواها.  وكيف له أن يجيب وهو بالكاد يفهم هذا المرض اللعين الذي قتل الملايين لقرون سابقة وحير الباحثين لعقود. وأثناء جلوسه حزينا على ما هو عليه نصحته صاحبة البنسيون الذي أقام به لعدة أيام أن يجلس بهدوء ليكتب فكرته بالتفصيل فلربما ما يُكْتب خير مما يُقال ونصحته بإرسال ما كتب مرة أخرى الى بروفيسور ماكلويد أستاذ الفسيولوجي والذي سبق أن رفض فكرته الحمقاء. حين وجد ماكلويد إصراره وقرأ ما كتبه عدة مرات وافق على إقراضه معمله وكلبين لإجراء التجربة أثناء سفره لأوربا في مايو ١٩٢٢.

لا يمكن أن تتصور سعادته بالموافقة على إجراء تجربته الذي حلم بها. ساعدة في التجربة تشارلز بيست وهو طالب بكلية الطب لم يتقاضى أجراً على العمل معه فكيف لهما الإثنان بالمال! أجريا التجربة بحماس ولكن كانت صدمتهما شديدة حين فشلت التجربة فشلًا زريعاً ومات الكلب المحقون بعصارة البنكرياس بالإلتهاب الحاد. كان من الممكن أن ييأس فريدرك لفشل تجربته فقد حذروه بأنه لا يعرف أصول البحث العلمي على حيوانات التجارب. ولكن إصراره على رفض الفشل جعله يبيع بعض ما يملك من قليل ليشتري كلبين آخرين ليعيد التجربه. كان يجلس بجوار الكلب مع تلميذه بلا نوم حتى الصباح ليدونا ملاحظاتهما. كادا لا يصدقان أنفسهما وهما يريان تحسن معدل السكر في دم الكلب الذي تم اسئصال بنكرياسه وإصابه السكر. أخيرا وجد الباحث الشاب وتلميذة طالب الطب علاجًا لمرض السكر اللعين من النوع الأول والذي كان يفتك بحياة ٦٥٪‏ من المصابين به في عامهم الأول. عاد ماكلويد من رحلته ليتأكد من نجاح التجربة ويعلن على الملأ نجاح معمله في إكتشاف هرمون الإنسولين.

لم يصدق فريدرك نفسه وهو يتلقى تلغرافًا من منظمة جائزة نوبل السويدية في العام التالي ١٩٢٣ والتي تهنئه فيه بالحصول على الجائزة الكبرى مناصفة مع بروفيسور ماكلويد. لنبل نفسه لم ينسى فريدرك تلميذه الذي ساعدة في البحث وقرر إقتسام الجائزة معه ليصبح تشارلز بيست أصغر من حصل على جائزة نوبل حتى يومنا هذا!  حينها قرر بروفسور ماكلويد أن يقتسم هو أيضا نصيبه في الجائزة مع دكتور كوليب وهو الكيميائي الذي ساعدهم على ترشيح عصارة البنكرياس.

لم تتوقف القصة الرائعه هنا فحين تقدمت شركات صناعة الدواء لشراء براءة إختراع الإنسولين تجاريًا. إشترط فريدرك عليهم  أن يباع الإنسولين مجانا لمرضى السكر حتي يوم وفاته فوافقوا مضطرين. للأسف بعدها بسنوات قليلة مات فريدرك پانتنج في حادث تحطم طائرته ليترك خلفه ذكرى لا تنسى لإنسان نبيل أعطى بعلمه الحياة للكثيرين من مرضى السكر حتى يومنا هذا وخلق للتاريخ نموذجاً من العلماء الذين يجب لشباب الأطباء الإحتزاء بهم.

مع نغمة اليأس التى أراها تتعالى في بلدنا الحبيبة يومًا بعد يوم بين شباب الأطباء أرى أن قصة هذا الشاب وإصراره  قد تبعث بعض الأمل في نفوسهم  في مقتبل حياتهم العلمية. فلو تعلم أولادنا وأخواننا وأخواتنا من شباب الأطباء الإصرار على النجاح وتكرار المحاولة وعدم الاستسلام لليأس وقبول الفُرص المتاحة أيًا كانت ولو قليلة مع العمل الدؤوب والملاحظة الجيدة ومساعدة الأصغر ونبل الغرض وعدم التنكر لمن ساعدهم وإرجاع الفضل لمن إستحقه مهما كان صغيرًا كما فعل فريدريك لتغير حالهم وحالنا جميعا. 

حين وقفت أمام ما تبقى من معمله لم أستطع أن أتمالك نفسى من التأثر فلقد رأيت بعينى على مدار سنوات عديدة من عملي في مجال السكر كيف أنقذ إكتشافه الفريد حياة الملايين من المرضى خاصةً الأطفال منهم ومنح الحياة والأمل مرة أخري في نفوس الأسر التى فجعت بإصابة أطفالها بمرض السكر.  رحم الله فريدرك پانتنج وتشارلز بيست وجعل من قصتهما عبرةً نتوارثها ونحكيها في كلياتنا ومحافلنا العلمية. فمن جد وجد ومن زرع حصد!


ads