محيي الدين جاويش يكتب: الوجه البشري.. الحقيقة أم قُبعة الساحر؟!
كنت طفلاً صموتاً هادئاً قليل الحركة … لم أكن أكتشف العالم بالاختبار الحسي.. كنت أكتشفه بالتأمل والنظر المطول بالمراقبة والمتابعة للناس والجموع المحيطة... أصبح الأمر عادة أو طبعاً استمر معي طيلة العمر فبتُّ باستمتاع شديد أراقب الوجوه في القطار في الشارع في المقهى وأرسم لكل واحد منها عالماً وشخصية وحتى صوتاً وأصبحت أمارس لا إرادياً مع الوقت هذا التحليل للأصوات، الطباع، الملامح، الحركات الجسدية، التفاتات العين والرأس بل ولصوت وشكل الخطوات وبدرجة كبيرة كانت صادقة وربما ما سأقوله الآن غير لائق لكني أنظر جيداً في عيني المتحدث مطولاً.
أنظر إلى وضع اليدين ولطريقة الوقوف ودرجة القرب الجسدي وقوة أو ضعف المصافحة أو العناق لحفاوة المضيف أو تأثر متلقي العزاء وحماسة قابل التهنئة لأقرأ بوضوح صدق أو كذب تلك المشاعر وربما أبعد من ذلك..
يعرف تحليل الشخصية من خلال الوجه باسم علم الفراسة أو علم قراءة الوجوه وهو من أهم أشكال المعرفة والعلوم التي برع فيها العرب وأتقنوها ويعتبر علم الفراسة من أهم العلوم الطبيعية التي تبحث داخل النفس البشرية من خلال الاعتماد على الظواهر المرئية كالشكل واللون.
بل إن الحيوانات تقترب أو تنفر من الإنسان من خلال قراءة ملامح وجهه، فعلماء جامعة ساسكس البريطانية على سبيل المثال لهم دراسة مشهورة تقول إن الخيول يمكنها قراءة تعابير الوجه البشري وتفسير معناها وربما هذا ما يفسر ارتباط حميمي بين حيوان بشخص ما ونفوره أو مهاجمته لشخص آخر.
نحن لسنا مجرد وجوه مختلفة الألوان والأشكال فقد تبين أن حجم ولون وشكل وجوهنا كلها أشياء تكشف عن أمور غاية في الأهمية عن شخصيتنا وصحتنا وطباعنا الأساسية.
يمكنك أن تتوقع أن يتجاوز فيلسوف عظيم في نظرته إلي مظهرنا الخارجي ويتأمل مكنون أنفسنا لكن الفلاسفة اليونانين القدماء كانوا أيضا يهتمون بالمظهر الخارجي بشكل كبير. فقد وضع أرسطو وأتباعه مجلداً عن قراءة مكنونات النفس من خلال المظهر الخارجي للإنسان.
وكان مما يزعمون في ذلك الشأن أن الشعر الناعم يدل على الجبن بينما الشعر الخشن يدل على الشجاعة والوقاحة تبرز من العيون المفتوحة ذات الجفون المحتقنة بينما يعتبر الأنف العريض دليلاً على الكسل كما هو الحال في الماشية والشفاه الممتلئة رآها الفلاسفة علامة على الحماقة أما أصحاب الشفاه الرقيقة فهم في العادة فخورون بأنفسهم كالأسود كما يقولون.
ما أريد قوله أن الوجه الإنساني أعقد مما تظن فهو كاشف جيد للمشاعر والروح وهو انعكاس نظرة الإنسان لنفسه وللآخر لكنه غامض وخادع ومبهم جداً في نفس الوقت فمثلاً قد يستطيع أحدهم إخفاء انكسار وألم وحزن عميق بابتسامة جذابة.. وقد يخفي بالبكاء وهدوء السحنة طباعاً قاسية جافة وقلباً غليظاً لا يتوانى عن ارتكاب أبشع الجرائم..
الرسام الفرنسي بول سيزان يقول:" إن ذروة الفن كله في رسم الوجه البشري".
الوجه البشري هو أكثر العلامات ظهوراً لكنه أكبر مخادع أكبر دليل وأكبر محتال إنه حيلة الساحر أو ذلك الجزء الظاهر من الحيلة والذي دوره أن يجذب الانتباه إلى حيث لا نرى الخدعة إنه القبعة والعصا اللذان يخطفان أبصارنا فلا نرى يد الساحر وهي تخرج الأرنب.