بقلم أنس الرشيد: وأنا كل ليلة قدامي البرواز

بقلم أنس الرشيد: وأنا كل ليلة قدامي البرواز.. نبي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، والناس يسخرون منه قائلين: «مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق». استنكروا ما رأوا لأن في مخيلتهم منافاة بين البشرية والنبوة، إذ كيف لنبي أن تكون له حياة عادية؟ وكأنهم يقولون لا يمكن أن يخرج العظيم من برواز لوحته التي رسم فيها.
بقلم أنس الرشيد: وأنا كل ليلة قدامي البرواز.. ربما هذا المشهد يمثل اللحظة التي صار للعرب فيها نبي، لحظة الارتباك والاصطدام مع موروثات أديان أخرى، وعقائد متضاربة، وكأن بعض العرب- في ذلك المشهد- تحول إلى فنان رأى شخصية عظيمة فأراد أن يرسمها واحتار: أيرسمها كما رآها في واقعه العربي الحقيقي، أم يتخيلها من الموروث الديني السابق؟ لكن هذا المشهد يقول له «لا بد أن تكسر البراويز ويخرج العظماء منها إلى الحياة اليومية». ولم يفعل هذا المشهد أكثر من سلوك عربي بسيط، لكن رد الفعل لم يكن بسيطاً بل مركباً من إرث طويل سابق، فمنذ أقدم عصور الفن -التي استطعنا أن نصل إليها- ظل تمثيل العظمة والعظماء مثالياً، لا يرسم النبي أو البطل كما هو في الحياة اليومية، بل كما ينبغي أن يكون عليه في المخيال، لا عيب فيه ولا نقص، منزهاً عن ضرورات الجسد كالجوع والتعب والاكتساب المعيشي.
بقلم أنس الرشيد: وأنا كل ليلة قدامي البرواز
بقلم أنس الرشيد: وأنا كل ليلة قدامي البرواز.. لهذا لا يزال هناك طائفة إسلامية صوفية تعتقد أن الرسول ليس بشراً، وربما ارتبط هذا الاعتقاد بفن ما قبل التحولات الدراماتيكية، وهو أن العظمة لا يمكن أن تتجلى في ضرورات الحياة اليومية، ويكتفى برسمها وتصورها بعظمة محسوسة عبر الإضاءة والملابس، إلا أنه بعد قرون من هيمنة الكنيسة الكاثوليكية على الفن الأوروبي حيث الفنان يرسم بشروط المثالية الدينية، جاء الانشقاق البروتستانتي وصعدت في ضوئه هولندا كمركز فني يضيء الواقع بالحياة اليومية، إذ تراجعت رعاية الكنيسة للفن، وصار أهل السوق هم الذين يتذوقون الفنون، ويبيعون فيها ويشرون، وصار النبي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وكسر البرواز، كأنه يعيد مشهد سورة الفرقان، حين تنفجر الصورة المقدسة من ينبوع السوق، من البيت، من موائد الطعام.
التفاتة:
بقلم أنس الرشيد: وأنا كل ليلة قدامي البرواز.. حين فقدت الفنون الهولندية بروازها الأول جرحت، و«بجروحها راحت لمين؟ لبروازها الثاني»