محيي الدين جاويش يكتب: جارتنا التي لم تحصد القمح
أقطن وحدي في شقة صغيرة هي الدور الأخير في بناء عتيق ذي ثلاث طوابق يحمل كل طابق شقتين، البناء القديم جداً ارتفعت من حوله عمارات فارهة أنيقة تقطنها نخب ثرية. ثرية لدرجة أن مالك البيت القديم القبيح هذا رفع قيمة الإيجار بترفع أمام كل طالب سكن متحججاً بميزة مجاورة أبناء العز. الغرفة التي أنام بها لها شباك طويل بحجم مساحة نصف الحائط المطل على الشارع والشارع ليس سوى زقاق صغير مغلق في نهايته بجدار اسمنتي أملس يرتفع لستة امتار تقريباً وفي الضفة الأخرى للنافذة يقف بصلافة جبين عريض لأحد تلك الأبراج الباذخة.
اكتشفت مع الوقت أن الزقاق الضيق يعتبر مكبر صوت لكل الجيران طالما كانت نوافذهم مفتوحة فالأصوات التي تنفذ إليه تتردد فيه مع صدى مجسم يدور عدة مرات دون أن يعلم صاحب الصوت به.. فالشجار الدائم بين الزوجين اللذين يقطنان أسفل مني أسمعه بوضوح وجارهم الشاب الذي يحادث الفتيات على النافذة أعيش معه كل لحظات العشق والوله واتأثر بها كمراهقة تتابع مسلسلاً تركياً تأخذ كل احداثه بانفعال وشجن.
قطعت الكهرباء فجأة عن البيت مع بدايات الصباح عرفنا فيما بعد أن السبب كان احتراق بالمحول الرئيسي. فصلت أجهزة التبريد والمكيفات وبدأت حرارة الجو اللاهب والرطوبة المرتفعة جدا تتسلل إلى داخل الشقق وتخنق أصحابها. استيقظت على صوت جدال حميم بين جارتنا وزوجها فهي تطلب منه ان يذهب إلى عمال الصيانة عند المحول المعطوب ويسألهم عن موعد الإصلاح لأنها لا تتحمل هذا الحر أو أن يخرج بها إلى أي مجمع تجاري به تبريد ريثما تعود الكهرباء هربا من هذا الجحيم على حد قولها الذي ردده الصدى في الزقاق فيما يرفض الزوج العنيد كلا الخيارين ..وعلى صدى الشجار تذكرت أيام الطفولة حين كنا في القرية لا نعرف شيئاً عن مبردات الهواء تلك وكانت عبارة " مكيف الهواء " التي تتلى دائماً في إعلانات السينما والمسرح التي يبثها التليفزيون تمر علينا دون ان نفهم أو نعي لماذا قد يحتاج شخص ما أن يكيف الهواء؟ كانت القرية ترزخ تحت قيظ لا يرحم في أيام الصيف ومع ذلك كنا نكتفي بالنسيم اللطيف الذي ترسله الحقول أو بـ " المروحة " إن احتد الحر وكانت الظروف المالية تسمح بهذه الرفاهية المبالغ فيها ومع ذلك لم نتوقف عن السخرية من أهل المدن الذين " كيّفوا الهواء"
ذكرتني جارتي المنزعجة بأحد الذين كنت أعرفهم في القرية صبي نحيف في مقتبل شبابه عُتلاً مندفعاً جهوري الصوت لا يخجل يرتدي دوماً جلباباً قروياً لا تغيب عنه آثار الحقل أصابع يديه وقدميه تبدوان كأغصان يابسه لكثرة ما كان يكدح بهما في أعمال الحمل والبناء والزرع وتربية الماشية وغيرها رأيته ذات مرة منذ سنوات بعيدة في القرية يحفر الأرض بيديه بعدما كسرت فأسه. بيديه العاريتين كان يحفر في الحصى والطين متباهياً بقوته أمام فتيات يطالعنه بدهشة وهنّ يجمعن القطن وأنا معهن أطالعه بدهشة اكبر، كان الزرّاع في موسم حصاد القمح يستعينون به. فحصاد القمح صعب ومرهق لأنه يخضع لنظام تراتبي شاق تبدأ بمرحلة الحصاد. ثم مرحلة الجمع ثم مرحلة الدرس ( فصل القمح عن السنابل) ثم التعبئة ثم فصل التبن ( سيقان القمح المكسّرة) عن القمح وتعبئة التبن وكل واحدة من تلك المراحل منهكة جداً وتحتاج إلى عصبة من الرجال الأشداء لإنجازها في عدة أيام لا سيما ايضاً أن حصاد القمح يكون في ذروة الصيف ما يزيد الأمر إرهاقاً وتعباً ناهيك عن أن الحصاد لم يكن مميكناً وقتئذ وهذا الفتى الذي لا تفتر قوته ولا تهدأ حركته هو خير من يساعد في هذا الأمر.
سقط الشاب الفتيّ هذا من ثقوب الذاكرة وبعد نصف العمر قابلته مصادفة في القرية كان مختلفاً بل كان شخصاً آخر غير الذي رأيته صغيراً يحصد القمح ويحمل الطين ويبحث في الأرض بأصابعه الطويلة اليابسة. جسده المكتنز شعره المصفف بعناية البزة الانيقة ربطة العنق المحكمة صوته الهادئ يداه الناعمتان ابتسامته الوقورة كل هذا طابقته مع الصورة القديمة فلم يحدث أي تطابق. يديه أصبحت بيضاء ناعمة وكأنها لم تمارس أي عمل في أي يوم. وقفت مشدوها أمام التفاصيل الغريبة ثم زادت الدهشة حين اشتكى ممتعضاَ من " حر البلد" وهو يمسح جبينه المتعرق عرفت لاحقاً ان صديقنا الريفي الكادح هجر القرية وطفق في المدن يبحث عن عمل وفي العاصمة استقر به المقام وأصبح طبالاً لراقصة ثم ارتقى به الحال وبات مطرباً مشهوراً يعرفه الجميع إلا أنا.
ذكرتني جارتي الممتعضة من حرارة الطقس بصديقي الفلاح الذي تبدل حاله كلياً وصار لا يطيق " حر البلد" التي كان يركض تحت الشمس في صيفها القاسي دون كلل او تذمر .. في الحقيقة لم يتغير صديقنا وحده تغيرنا جميعاً بشكل غريب وغير مفهوم أصبنا بحالة تذمر تذمر من الطقس الحار ومن برودة الشتاء ، من العمل وقلة العمل، من النحافة ومن السمنة، من عدم الزواج ومن مشاكل الزواج، من قلة الانجاب ومن مسؤوليات الأبناء، نتذمر من التجاهل ومن الاهتمام الزائد ، نتذمر من الطرق المزدحمة ومن فراغها وقت الإغلاق الصحي. نحن نعيش حالة تذمر، حالة نكران لثوابت طبيعية ونواميس بديهية في الحياة عشنا بها ومعها سنوات طويلة بشكل طبيعي أصبحنا نحب الرفاهية ولا نتصور ان تبتعد عنا نكره البذل والجهد ولا نحتمل الصبر. نطلب السرعة والصحة الجيدة والأمان المعيشي وقد نتخلى ربما عن أصول وقواعد وثوابت في سبيل ذلك أصبنا بحالة نعومة أمام حتى التوافه من الأمور. يبدو يا أعزائي ان التطرف في الحداثة وعصر الرفاه والثورة التكنولوجية لم يصيبوا مشاعرنا فحسب بل جعلونا لا نعرف أصلاً أنها موجودة.