السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق 21 جمادى الأولى 1446
رئيس مجلس الإدارة
خالد جودة
رئيس مجلس الاداره
خالد جوده

فخ الأمومة المثالية

الأربعاء 05/أبريل/2023 - 10:15 م
هير نيوز

لطالما حاول الإنسان تحسين ظروف حياته وعمل جاهداً ليوفر لنفسه أكبر قدر ممكن من الرفاهية من أجل تسهيل شتى نواحي حياته مثل التنقل والسكن. ولعل الجزء الأكبر من مجهوداته تلك، على مر العصور، بذله ولا يزال في سبيل مواجهة الطبيعة وقواها ومحاولات إخضاعها لرغباته. على النقيض، في كل ما يتعلق بحياة المرأة الخاصة والمرتبطة بفيزيولوجيتها، تتضافر مجهودات الإنسان من أجل الإبقاء على الأوضاع كما هي. فتبقى معاناة النساء مستمرّة مع أعراض الدورة الشهرية ومتاعب الحمل والولادة مثلاً دون تغييرات جلية رغم التقدم الطبي الهائل والذي قد يمكننا، وبعد فترة وجيزة، من خلق إنسان في المختبر.

‏الأمومة، في نظر الغالبية الساحقة، واجب مقدّس وتشريف تتميّز به المرأة دون الرّجل، لذا يجب عليها القيام به دون انتظار شكر أو تقدير. فالمجتمع البشري يريد أياد عاملة ويطالب النساء بالإنجاب أكثر لكنه لا يلتفت لمطالبهن المتعلقة بتحسين ظروف العناية والولادة مثلا والحجة دائمة جاهزة للإشهار: هذا قدركن كنساء منذ بداية البشرية فلم التذمر؟

‏مفهوم الإنجاب كقدر نسائي بحت عززته الأديان التي شملت غالبيتها آلهة خاصة بالخصوبة وقدّست الحمل والولادة (إيزيس المصرية كمثال). الأديان التوحيدية الثلاثة كرست، بدورها، لهذه الفكرة. في اليهودية مثلا، المرأة مطالبة بالإنجاب المتكرر لعلها تحمل في أحشائها يوما المخلّص المنتظر الذي سيعيد أمجاد شعب الله المختار. عند المسيحيين، المرأة محكوم عليها بتحمّل الآلام المتكررة مع كل ولادة لتكفّر عن أنوثتها الشريرة التي ورثتها عن حواء صاحبة الذنب البشري الأول. أما في الاسلام، فما أكثر الأحاديث التي تحث على الزواج من المرأة الولود التي تنجب جيشا من المسلمين للمباهاة بهم يوم القيامة.

‏وحتى خارج نطاق الأديان، اعتبر العديد من الأطباء والفلاسفة، ابتداءا من عصر التنوير، أن الأمومة هي الدور الطبيعي للمرأة وأنها المسؤولة الأولى (والوحيدة) عن تربية الأبناء. ولعل أكثر من روّج لهذه الفكرة حينها كتابات جان جاك روسو. وتوالت بعده الدراسات المختلفة التي تهدف لإثبات أهمية الأم وتأثيرها على كافة نواحي حياة أطفالها المستقبلية.

‏الثورة الفرنسية ساهمت بشكل كبير في تدخل الدولة في الأمومة، حيث أصبحت الام، رسميا، رمزا للوطن (تمثال ماريان) وهي من تقود أبناءها من الشعب بصدر عار (رمزية الام المرضعة) نحو الحرية.1 بالإضافة لدورها في الولادة والاهتمام، أصبحت الأم أيضا المعلمة والمربية التي يقع على عاتقها منح مواطنين صالحين للجمهورية. وبدلا من أن تساهم المرأة في الحركة السياسية آنذاك، رغم مشاركتها في الثورة، كان عليها أن تكتفي بتلقين مباديء الوطنية لأطفالها ثم إرسالهم لساحات الحرب دفاعا عن الوطن والمبادئ. ورغم إيهام المرأة بأن دورها كأم يمنحها نفس الأهمية أو أكثر من الرجل في المجتمع إلا أنها لم تحصل على أية حقوق ملموسة تغير من وضعها قانونيا. مجرد إحساس بالأهمية لأول مرة عبر إسناد دور نبيل لها لا يستطيع الرجل القيام به.
1. لوحة دولاكروا "الحرية تقود الشعب" (La liberté guidant le peuple)

‏بعد الحرب العالمية الاولى، تضاعف الاهتمام الحكومي بالأم والطفل من أجل إعادة الإعمار وتعويض الخسائر الفادحة في الأرواح. وتكاتفت البورجوازية التقليدية والكنيسة والدولة من أجل "استعادة" النساء اللواتي خرجن للعمل مكان الرجال، لكي يتفرغن لدورهن الطبيعي. وتصاعدت الأصوات ضد عمل المرأة في المصانع لأنه يعرض صحتها الإنجابية للخطر (الإجهاض، تشوهات الأجنة، العقم،...الخ). ووضعت الحكومات برامج كاملة من اجل العناية بالأمهات والأطفال عبر تقديم مساعدات مالية وتوعوية تبدأ من المدارس وأيضا احتفالات على غرار عيد الام وميدالية الام او العائلة المثالية. ولأول مرة أصبحت الأمومة وظيفة مجتمعية لها احترامها لكن، في المقابل، لا تأخذ عليها المرأة أجرا والمطلوب منها أن تكتفي بالمكافآت المعنوية. (بالنسبة لسيلفيا فيدريتشي، اختلف مع طرحها تماما واعتقد ان الافضل هو السعي لإخراج المرأة من هذا التنميط عوضا عن اعتباره عملا مقابل أجر).

‏المثير للاهتمام أنه في نفس الفترة الزمنية، حاول الفلاسفة ورجال الدين جاهدين نفي رذيلة اتباع الغرائز عن الانسان كي يسمو بروحه، إلا أن الجميع، لغاية اليوم، شديدو التمسك بغريزة الأمومة التي يزعمون وجودها داخل كل فتاة وامرأة وحريصون على الحفاظ عليها وانتمائها والاشادة بها.

‏تعظيم فكرة الأمومة وإضفاء طابع القداسة على تربية الأجيال فتح الباب على مصراعيه لتثمين دور الأم ومراقبته من الجميع معتمدين في ذلك على كم هائل من الدراسات الطبية والنفسية التي تطالبها بأن تكون مثالية وتسائلها في حال حدوث أي خلل في صحة او تصرفات أطفالها وحتى عند مخالفتهم النمط السائد أو المعترف به في المجتمع (في خياراتهم الجنسانية مثلا)، فالأم أول المتهمين. هذه المثالية المطالبة بها الأم تبدأ حتى قبل الإنجاب عبر حثها على اتباع نمط حياة صحي لا يؤثر على خصوبتها، تعاطي عقاقير تجعل فرص الحمل أفضل، التحضير النفسي والتربوي،...الخ.

‏ونلاحظ الكم الهائل من الكتب المخصصة للحمل والولادة والتربية التي تملأ رفوف المكتبات والتي تساهم في تعزيز تقسيم الادوار الجندرية لأن خطابها موجه بشكل رئيسي للأمهات. انتشار التحليل النفسي الفرويدي ساهم بشكل كبير في خلق أسطورة الام المثالية عبر تطرقه لعلاقة الام بالطفل وربطه بين الاضطرابات النفسية وبين سنوات الانسان الاولى.

هذه الكتب والمنشورات، رغم أنها ساهمت في نشر الوعي المتعلق بكل ما يخص الصحة العامة في أوساط الأمهات المتعلمات، إلا أنها تفرض عليهن ايديولوجيا معينة تخدم النظام الأبوي عبر القائها واجبات أكثر فأكثر على عاتق الامهات سواء فيما يخص الرعاية الجسدية أو النفسية للطفل. هذه الافكارجعلت من الطفل محورا للاسرة ومنحته مساحة من الاهتمام اكبر من تلك التي يتم تخصيصها للام باعتبار أنها اليوم تحظى برعاية طبية افضل بالمقارنة مع الأجيال السابقة.

‏حاليا، ومنذ عدة سنوات، ظهرت للواجهة صورة نمطية جديدة للام المثالية، قريبة جدا من صورة الام الخارقة والني تروج لها وسائل الاعلام عبر الأمهات النجمات القادرات على التوفيق بين العمل والأمومة والحب ودائما في قمة تألقهن كنساء. لكن واقع الأمهات العاملات مختلف تماما في ظل الأزمة الاقتصادية وبشاعة النظام الرأسمالي الذي يعمل ما في وسعه لإثناء النساء عن الإنجاب والعراقيل التي يضعها في طريقهن، مثل تأخير الترقيات والملاحظات الميزوجينية والضغوط النفسية المختلفة. بالتالي تختار العديد من الأمهات البقاء في البيت للاهتمام بالاطفال بعد الولادة لأن العمل خارجا غير مجد اقتصاديا في ظل وجود شريك يمكنه تحمل تكاليف العيش. بالنسبة لنساء الطبقات الكادحة، الانقطاع عن العمل يعد ضربا من ضروب الرفاهية ويضطررن للعودة سريعا، حتى قبل الحصول على الراحة الكافية والرعاية اللازمة.

في ظل الرواج الذي تلقاه حاليا ايديولوجية العودة للطبيعة والحفاظ على البيئة، نشهد ولادة ضغوطات جديدة على الأمهات ابتداءا من خيارات الولادة المؤلمة وانتهاءا بالرضاعة الطبيعية والتي يقابل رفضها باستنكار شديد وهجوم على الام التي لا تريد "الافضل" لطفلها حسب ما قررته الأيديولوجيا الجديدة والمجتمع الذي يضع مصلحة الطفل كما يراها، فوق مصلحة الام او رغباتها. أيضا نمط الحياة العام الذي تروج له مثل هذه المطالبات لا يمكن ان يتوافق مع خروج الام للعمل ولا مع أن يكون لها حياة شخصية بعيدة عن دورها كأم ويحوّل المرأة لمجرد آلة إنجاب ورعاية تقضي وقتها في الاهتمام بالطفل عبر الرضاعة الطبيعية والنوم معه وغسل الحفاضات القماشية وإعداد الوجبات الاولى في البيت والاهتمام أيضا بالجانب النفسي والتربوي والتعليمي للطفل-الإله.

‏بالاضافة للضغوطات الرهيبة التي تمارسها أسطورة المثالية على الأمهات، فهي تعمل أيضا على إلغاء دور الاب تماما ويعيد العجلة للخلف فيما يخص اعادة توزيع الادوار الجندرية والمساواة في الواجبات تجاه الأبناء. هذا الخطاب يعيدنا لجان جاك روسو حيث العلاقة مع الاب غير موجودة الا على شكل "سلطة" لمصلحة الطفل. وضع العلاقة بين الام والطفل لسنوات الثلاث الأولى في إطار مقدس يختزل الأمومة في الرابط البيولوجي ويسجن المرأة في الدور الانجابي، مهمشا بذلك أي إمكانية لاشراك الاب في الرعاية والتربية، حيث يصبح مجرد شريك في عملية التخصيب ويظل خارج دائرة الاهتمام بالطفل والتي تعود، مرة اخرى، لعالم النساء وحدهم.

‏في احيان كثيرة تُختزل قيمة المرأة في قابليتها للأمومة تحت غطاء ديني او وطني او "طبيعي"، لكن من حقنا اليوم ان نرفض الإنجاب وان نرفض التدخل السافر للدولة والمجتمع في ممارستنا للأمومة ونرفض الترويج الإعلامي والطبي للأمومة المثالية.

نقلا عن كحل

ads