مع ارتفاع أسعار الدولار أمام الجنيه المصري تأثرا بالأزمة المالية والاقتصادية العالمية، يلجأ البعض إلى جمع العملات العربية والأجنبية والمضاربة في الدولار، بغرض التربح من زيادة أسعارها، فهل المضاربة والسوق السوداء حلال أم حرام، وما حكم المال الذي يتم اكتسابه من السوق السوداء، وما جزاء مَنْ يجمع الدولار ليضارب به بقصد الإضرار باقتصاد الدولة؟
وتعرض «هير نيوز» الإجابة عن تلك الأسئلة من خلال فتوى الأستاذ الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية..
حكم احتكار الدولار والعملات الأجنبية
وقال الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، إن احتكار الدولار في أيامنا هذه يدخل تحت الاحتكار المحرم شرعًا، وهو أيضًا مُجَرَّمٌ قانونًا، ومرتكبُ هذا الفعل مرتكبٌ لإثمٍ كبير؛ لأنه يضيق على عامة الناس من خلال ارتفاع أسعار السلع والخدمات ومتطلبات الحياة بسبب شحّ العملة، فيلحق الضرر باقتصاد البلاد، ويؤثر سَلْبًا في الاستقرار ومسيرة البناء والتنمية، ويوقع المحتاجين في المشقة والحرج.
ومن ناحية أخرى لا يجوز التعامل في النقد الأجنبي إلا عن طريق البنوك وشركات الصرافة المعتمدة المرخص لها في هذا النوع من التعامل، والمال المكتسب مما يعرف بـ "تجارة السوق السوداء" كسبٌ غير طيِّبٍ.
وأضاف الدكتور شوقي علام، مفتي الجمهورية، أن من أحد خصائص المعاملات المالية في الإسلام مراعاتها لمصالح أطراف المعاملة جميعًا؛ بحيث لا يَلحَق ضررٌ مؤثِّرٌ بأحد الأطراف، وتلك الخصيصة طبيعة لما يمليه العدل الكامل الذي رسَّخته الشريعة الإسلامية؛ وكل ذلك لأن المعاملات مبناها على التشاحح لا المسامحة.
ممارسات نهى عنها الشرع
ولأجل تحقيق هذا المقصد نهى الشارع عن بعض الممارسات التي قد تضر بمصالح بعض أطرافها، وسدَّ بطريقة محكمة منافذ هذه الممارسات بما يجفِّف منابعها، ومن تلك الممارسات ما يعرف بـ(الاحتكار) الذي هو أحد الأسباب الرئيسة في ظهور ما يعرف بـ(السوق السوداء).
والاحتكار في اللغة يأتي لمعانٍ؛ منها: الضيق، والقلة، والاحتباس، والاستبداد، وغالب المعاني والاستعمالات اللغوية للاحتكار تحمل معنى سوء الخلق، وكون الإنسان ظالمًا في معاملاته، بما يُنبِئ عن نُفرِة النفس عن هذه الممارسة الضارة.
وتعريف الفقهاء للاحتكار فيه تباينٌ نظرًا لما ضمَّنه كل فقيهٍ من شروطٍ وأحكامٍ قد لا يراها فقيهٌ آخر:
فعرّفه الحنفية بأنه: حبس الطعام للغلاء. ينظر: "العناية شرح الهداية" للإمام شمس الدين البابرتي الحنفي (10/ 58، ط. دار الفكر).
حدود الاحتكار
ولم يذكر المالكية حدًّا للاحتكار، لكن المأخوذ من كلامهم أنه حبس شيء من الطعام أو غيره في وقت يضر احتكاره فيه بالناس. ينظر: "البيان والتحصيل" لابن رشد المالكي (7/ 360، ط. دار الغرب الإسلامي).
وعند الشافعية: هو اشتراء طعام غير محتاج إليه وقتَ الغلاء لا الرخص، وإمساكه وبيعه بأكثر من ثمنه للتضييق. ينظر: "نهاية المحتاج" للإمام شمس الدين الرَّملي الشافعي (3/ 472، ط. دار الفكر).
وعند الحنابلة: هو شراء قوت الآدمي وادخاره للضرر. ينظر: "المبدع في شرح المقنع" للإمام برهان الدين ابن مفلح الحنبلي (4/ 47، ط. دار الكتب العلمية).
والمعنى الملاحظ في كل هذه التعريفات أنَّ الاحتكار يكون في الأقوات، أي: ما يقوم به بَدَن الإنسان من الطعام، لكن هذا المعنى مختلف فيه، فقد وقع الخلاف بين الفقهاء في العلة التي من أجلها مُنِع الاحتكار، والبحث عن علة المنع من الاحتكار يُبْنَى عليه القول في حكم "احتكار الدولار".
والحاصل من أقوالهم: أن العلة في منع الاحتكار ليست ذات الاحتكار، بل الإضرار بالناس، ولهذا يقول الإمام البيهقي في "معرفة السنن والآثار" (8/ 206، ط. دار الوعي بحلب) بعد ذكره حديث معمر رضي الله عنه: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ»؛ قال: [إنما أراد -والله أعلم- إذا احتكر من طعام الناس ما يكون فيه ضرر عليهم دون ما لا ضرر فيه].
الاحتكار المحرم
والإضرار معنًى مشتركٌ بين مرتبة الضرورة والحاجة، فإذا أَلجأ الاحتكارُ الناسَ إلى مرتبة الضرورة أو الحاجة فهذا هو الاحتكار المحرَّم، والذي يتحقَّق باحتكار أي شيء ولا يخص الطعام دون غيره؛ ذلك أن اختلاف الفقهاء فيما يكون فيه الاحتكار إنما هو خلاف في الصورة فقط -أي: خلافٌ لفظيٌ-، فعند المالكية أن الاحتكار يكون في كل شيء؛ سواء في الأقوات أم غيرها وإن كان ذهبًا وفضة، وهو قول أبي يوسف من الحنفية، وقال الشافعية والحنابلة إنه خاص بالأقوات فقط، وهو المفتى به عند الحنفية، وخصَّ الحنابلة القوت بقوت الآدمي، فلا احتكار عندهم في قوت البهائم.
لكن القائلين باختصاصه بالأقوات اشترطوا ألا يكون للناس في المحبوس -ونعني به غير الأقوات- ضرورة، ومعناه عدم الجواز عند اضطرار الناس أو حاجتهم إلى الشيء الـمُحْتَكر، وحالة الاضطرار أو الحاجة هي ما يصدق عليها معنى الاحتكار كما أوضحنا، فإذا لم يكن للناس حاجة في السلعة، ولم يضطروا إلى شرائها، فليس فيها احتكارٌ وإن حبسها البائع وغَلَا ثمنها.
ففي "الدر المختار" للإمام الحَصْكَفي الحنفي (6/ 399، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا يكون محتكرًا بحبس غلة أرضه) بلا خلاف] اهـ. يقول الإمام ابن عابدين في حاشيته عليه المسمّاة بـ "رد المحتار على الدر المختار": [والظاهر أن المراد أنه لا يأثم إثم المحتكر وإن أثم بانتظار الغلاء أو القحط لنية السوء للمسلمين. وهل يجبر على بيعه؟ الظاهر نعم إن اضطر الناس إليه] اهـ. فغلة الأرض -ومثلها منتجات المصنع- لو حبسها لا يأثم إثم احتكارها، وإنما يأثم لو أضمر نية سوء للناس، ومع ذلك فللحاكم أن يبيعها عليه إن احتاج الناس إليها.
ويقول الإمام البهوتي الحنبلي في "كشاف القناع" (3/ 187، ط. دار الكتب العلمية): [(ولا يحرم) الاحتكار (في الإدام؛ كالعسل والزيت) ونحوهما، (ولا) احتكار (علف البهائم)؛ لأن هذه الأشياء لا تعم الحاجة إليها؛ أشبهت الثياب والحيوان].
والتعليل بعدم عموم الحاجة مُؤذِنٌ بأنه إذا عمت الحاجة فلا ريب في الحرمة، وهذا ما يفهم من نصوص الحنابلة عند البحث عن علة تحريم الاحتكار في الأقوات؛ ففي "شرح منتهى الإرادات" للإمام البهوتي الحنبلي (2/ 27، ط. عالم الكتب): [(وَيُجْبَرُ) مُحْتَكِرٌ (عَلَى بَيْعِهِ)، أَيْ: مَا احْتَكَرَهُ مِنْ قُوتِ آدَمِيٍّ؛ (كَمَا يَبِيعُ النَّاسُ) لِعُمُومِ الْمَصْلَحَةِ وَدُعَاءِ الْحَاجَةِ].
وعلى ما ذُكِر يُبْنَى القول في مسألة "احتكار الدولار"؛ فإذا مَشَينا على القول بأنَّ الاحتكار لا يختص بالأقوات -كما هو عند المالكية-، فلا ريب في أن حبس العُمْلات كالدولار واليورو داخلٌ في مفهوم الاحتكار إذا تحقَّق فيه شروط الاحتكار، وإذا مَشَينا على القول بأنه لا احتكار إلا في الأقوات خاصة، فإن إلجاء الناس إلى مرتبة الضرورة أو الحاجة في حبس غير القوت داخلٌ أيضًا في مفهوم الاحتكار كما سبق بيانه، وهو ما يُؤْذِن بدخول حبس العملات أوقات احتياج الناس إليها في معنى الاحتكار، لا سيما وأنَّ حبس العملات -كالدولار واليورو وما أشبههما- والضَّنَّ بها في أوقات الاحتياج إليها فيه تضييقٌ على عامة الناس من خلال ارتفاع الأسعار للسلع والخدمات ومتطلبات الحياة، وإلحاق ضرر باقتصاد بلادهم، ويؤثِّر سَلْبًا في الاستقرار ومسيرة البناء والتنمية، وكل ذلك يُعَدُّ اعتداءً صارخًا على مصالح الناس، وإيقاعًا للمحتاجين منهم في الحرج والمشقة، وهذا كافٍ في القول بحرمة احتكار العملات، إضافةً إلى ما ورد من النهي عن الاحتكار أصالةً؛ فقد ورد النهي عن الاحتكار في عدة أحاديث، منها: حديث معمر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنِ احْتَكَرَ فَهُوَ خَاطِئٌ» أخرجه مسلم، وفي رواية: «لَا يَحْتَكِرُ إِلَّا خَاطِئٌ».
ومنها: حديث أبي أُمَامَةَ رضي الله عنه قال: "نهى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن يُحتَكَر الطعام" أخرجه البيهقي في "السنن".
ومنها: حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَنِ احْتَكَرَ حُكْرَةً، يُرِيدُ أَنْ يُغْلِيَ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَهُوَ خَاطِئٌ» أخرجه أحمد، والحاكم، والبيهقي.
ومنها: حديث معقل بن يسار رضي الله عنه قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «مَنْ دَخَلَ فِي شَيْءٍ مِنْ أَسْعَارِ الْمُسْلِمِينَ لِيُغْلِيَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنَّ حَقًّا عَلَى اللهِ أَنْ يُقْعِدَهُ بِعُظْمٍ مِنَ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» أخرجه أحمد، والحاكم، والبيهقي، والطبراني.
وروي بسند ضعيف: حديثُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «الْجَالِبُ مَرْزُوقٌ، وَالْمُحْتَكِرُ مَلْعُونٌ» أخرجه ابن ماجه، والبيهقي في "السنن".
وقد حمل جمهور الفقهاء هذه الأحاديث وغيرها على الحرمة، وأبلغ الأحاديث في النهي عن الاحتكار حديث معمر رضي الله عنه؛ فإنه قد اشتمل على صيغة النفي؛ وذلك في قوله: «لا يحتكر» فنفى الاحتكار عن كل أحد إلا الخاطئ، واشتمل أيضًا على معنى النهي، فجمع بين النفي والنهي، وهذا أبلغ في التحريم من النهي منفردًا، ومعناه أنه لا ينبغي لأحد أن يفعل هذا، والخاطئ -بالهمز كما في الحديث- هو الآثم العاصي.
وبناءً على ما سبق: فالتعامل مع الجهات غير المرخَّص لها في الاتجار بالعملة ممنوعٌ شرعًا، ومجرّمٌ قانونًا، والكسب الحاصل من هذا النوع من الاتجار بهذه الصفة كسبٌ غير طيِّبٍ؛ لا سيما وأن هذا النوع من الممارسات التجارية يضر باقتصاد الدول وعملتها وصناعتها وإنتاجها الوطني، ويضر أيضًا بحركة البيع والشراء في المجتمع، فإذا أضيف إلى ذلك تعمد حبس هذه العملات في أوقات الاحتياج إليها لتربُّص الغلاء زادت الحرمة والإثم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.