السبت 23 نوفمبر 2024 الموافق 21 جمادى الأولى 1446
رئيس مجلس الإدارة
خالد جودة
رئيس مجلس الاداره
خالد جوده

بريد «هير نيوز».. نظـرة العتـاب!

الأربعاء 26/يناير/2022 - 05:16 م
هير نيوز

أكتب لك لتساعدني في مواجهة أسوأ مشكلة يمكن أن تواجه أبا بعد أن كافح طوال حياته ليؤدي رسالته نحو أبنائه على أكمل وجه مهما تكن التضحيات.


إنني رجل اقترب من الستين, وقد نشأت في أسرة عريقة من الأسر التي كان يقال عنها إنها إقطاعية في إحدى محافظات الوجه البحري, وعشت طفولة عادية, ولكن نظرا لظروفي الخاصة فقد كنت أشعر بالتميز عن زملائي لما لأسرتي من سطوة ونفوذ وجاه وقضيت طفولتي بين بيت جدي في إحدى المدن الساحلية صيفا ومنزل والدي في الريف شتاء خلال الدراسة, حتى وصلت إلى الجامعة والتحقت بإحدى الكليات العملية وكان ذلك في عام 1965.


وبدأت دراستي بالكلية كغيري من الطلبة إلى أن جاء اليوم الذي غير مجرى حياتي كلها, فقد حدث خلاف بيني وبين أحد أساتذتي بسبب سؤال سألته ورفض الإجابة عليه وكان من نتيجة هذا الخلاف أن فصلت من الكلية لتكرار مرات الرسوب, وساءت علاقتي بأبي للغاية. وبتأثير حماس الشباب واندفاعه اتخذت قرارًا دون أن أفكر فيه طويلا.


لكنني رأيت وقتها أنه الحل لما أنا فيه من عناء, وهو أنني يجب أن أبدأ حياتي دون الاعتماد علي أحد, فقمت بالتطوع بالجيش بالثانوية العامة في أحد الأسلحة المهمة, والتحقت بأحد مراكز إعداد الفنيين ودرست به لمدة سنتين متواصلتين دراسة هندسية صعبة بالإضافة للعلوم العسكرية, وتخرجت برتبة صغيرة ولم أكن أعلم أنني بذلك قد أصبحت في نظر كثيرين فاشلا وأنتمي إلى طبقة اجتماعية غير التي أنتمي إليها بحكم نشأتي.


ولم أهتم بذلك كثيرا فقد كنت اتقاضى راتبا جيدا كما كانت مهنتي التي درستها في الجيش قريبة جدا من هوايتي التي حالت بيني وبينها ظروف تعثري في الدراسة الجامعية, كما كنت أشعر بالفخر لأنني أشارك في الدفاع عن وطني من موقع هام. وهكذا سارت بي الحياة وأنا أتجنب المناسبات العائلية وغيرها حتى اتفادى نظرات الأقارب وأعفي نفسي وغيري من الحرج. إلي أن فكرت في الزواج فواجهت مشكلة رتبتي الصغيرة ولقب متطوع الذي أحمله ولا أدري لماذا هذه النظرة الغبية القاصرة الجاهلة التي ينظر بها لي ولمن في مثل حالتي بعض الناس ويبدو أنها سائدة في مجتمعاتنا العربية فقط.

 

المهم أنني عانيت مشكلة زواجي, حيث رفضتني الكثيرات برغم ظروفي العائلية الجيدة ولم يكن والداي يرضيان لي بالطبع بالزواج ممن هي في نظرهما لا تنسابنا. إلي أن أكرمني الله بزوجة يرضى عنها والداي ومناسبة لي وواصلت حياتي وأنجبت أولادي حتى تخرجت الابنة الكبرى في الجامعة ويدرس بقية الأبناء بالجامعة بكليات جيدة, والحمد لله وهنا تأتي المشكلة.


وأرجو ألا تستغرب مما سأقوله فقد كنت ألاحظ نظرات عتاب في عيون أولادي مع أنني لم أقصر في شيء أبدا نحوهم فنحن نعيش والحمد لله في مستوى جيد اجتماعيا وماديا, ولقد استقلت من الجيش عام 1982 والتحقت بعدة أعمال أكرمني فيها الله وأصبحت أمتلك ثروة صغيرة في البنك يعينني عائدها على مواجهة أعباء الحياة؟ بالإضافة إلى مساحة لا بأس بها من الأرض الزراعية ورثتها عن أبي رحمه الله, كما أمتلك فيلا في الأرياف وسيارة وشقة بالمدينة الساحلية.


فما هي المشكلة إذن إنها ببساطة في العرسان الذين يتقدمون لابنتي فبالرغم مما ذكرته من ظروفي وبالرغم من أنها تحمل شهادة البكالوريوس من إحدى الكليات العملية المشهورة لصعوبة دراستها وأنها تعد دراسة الماجستير بعد تخرجها بتفوق وجميلة ومتدينة وعلي خلق ومحجبة, بالرغم من كل ذلك فإنه ما أن يعرف العريس عملي السابق في الجيش ورتبتي الصغيرة حتى يغير رأيه.. هل تصدق ذلك؟!


لقد كنت أعمل في أشرف مكان يمكن أن يعمل به إنسان يحب وطنه فهل المشكلة في الرتبة الصغيرة وحدها وهل هي عار يوصم به الإنسان طوال عمره وينظر له على أنه فاشل. رغم أنني من المقاتلين القدماء في حرب 73. إنني لا أدري ماذا أفعل وماذا أقول وكيف أتصرف ؟ إنني لا أريد أن أحرم أولادي من حياتهم الطبيعية وحقهم في الحياة الكريمة كغيرهم ولا أدري مبررا لعقابهم على شيء لم يكن لهم فيه يد, ويكفيني أنا ما عانيته طوال عمري بسبب عملي السابق والذي كان يمثل عقابا على جريمة لم أرتكبها. إنني لا أتحدث عن نفسي فقط ولكن أعلم أن معظم زملائي القدامى يعانون نفس المشكلة والتي كان لها نفس الأثر على حياتهم. إنني أطلب مشورتك ورأيك السديد. فماذا تقول لي؟


ولكاتب هذه الرسالة أقول:

يخيل إليّ أن الجزء الأكبر من المشكلة إذا كان ثمة مشكلة في الأمر, إنما يدور في أعماقك أنت وليس في أذهان الآخرين, فأنت يا صديقي تشعر بأن فترة تطوعك للالتحاق بالجيش وعملك فيه عدة سنوات برتبة صغيرة خروج على سياق وضعك العائلي والاجتماعي اضطررت إليه راغبا أو كارها بسبب فصلك من كليتك المرموقة وتوقفك عن الدراسة.. وتوتر العلاقة بينك وبين أبيك نتيجة لذلك, وبالتالي فإنك لاتنظر إلي هذه الفترة من حياتك وتلك الرتبة الصغيرة التي حملتها خلالها.. كرمز لإرادة التحدي والكفاح التي دفعتك لاتخاذ القرار ببدء صفحة جديدة من حياتك معتمدا فيها على نفسك وحدك.. ولا كرمز لمحاولتك الجادة لتعويض ما خسرته بفصلك من الكلية باقتحام مجال جديد ومحاولة إثبات الذات فيه, وانما تنظر إليها كرمز لفشلك الجامعي ولفترة عصيبة من حياتك بؤت فيها بالخسران وخيبة الأمل.. وتوتر علاقة الأهل بك وإحساسهم بأنك قد أضعت فرصك الثمينة في الحياة بسبب عدم جديتك في الدراسة وليس بسبب ذلك الخلاف الذي تشير إليه بينك وبين أحد أساتذة الكلية.


ومع التسليم بمسئوليتك الكاملة عن الفشل الدراسي.. فإنك لم تقف مكتوف الأيدي عاجزا أمام انهيار الأحلام.. وإنما تحركت للأمام واتخذت قرارا جريئا بالتطوع للالتحاق بالجيش والدراسة في أحد مراكزه الفنية, وحققت نجاحك فيه واتخذت طريقا جادا وشريفا في الحياة, وحين تحسنت أوضاعك العائلية اكتفيت من التجربة بما حققته خلال السنين.. وشققت لنفسك طريقا آخر في الحياة, ورعيت أبنائك حتى شقوا كلهم طريقهم بنجاح في التعليم, فلماذا تنظر إلي هذه الفترة من حياتك بما يشبه الخجل منها بعد أن تحسنت أوضاعك المادية والاجتماعية والعائلية, ولقد كان الأحرى بك أن تعتز بها وترضي عنها وعن كفاحك الشريف خلالها؟


إن نظرة العتاب التي تقول انك تلمحها في عيون ابنائك لحملك تلك الرتبة الصغيرة التي لا تتلاءم مع جذورك العائلية, إنما هي في تقديري من أثر احساسك السلبي أنت بهذه الفترة من حياتك وليست من آثار إحساسهم بها.. إذ أنني لا أحسب أن أبناء ناضجين ينعمون بعطف أبيهم وحسن رعايته لهم يمكن أن يحملوا له مثل هذه النظرة بسبب مرحلة من مراحل كفاحه الشريف في الحياة, وأحسب علي العكس من ذلك أنك إذا تقبلت نفسك وظروفك ومراحل حياتك المختلفة ورضيت عنها.. فإنك لن تري مثل هذه النظرة الموهومة في عيون ابنائك ولن تري فيها إلا كل الفخر بك والاعتزاز بأبوتك لهم.


ونفس الشيء يمكن أن يقال عما تحسبه أثرا سلبيا لهذه الفترة في حياتك علي حظوظ ابنتك في الزواج, فقبولنا نحن لأنفسنا واعتزازنا بكل مراحل كفاحنا المخلص في الحياة هو دائما بداية الطريق لنيل قبول الآخرين واعتزازهم بنا.


اقرأ أيضًا..

ads