رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف
هير نيوز هير نيوز
رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف

بقلم فاطمة المتحمي: الدخيل والمتنبي: الشعر بلغة العصر 3/3

هير نيوز

يُخطئ من يظن أن تغريدات تركي الدخيل مجرد استعادة لشاعر قديم. إنها في جوهرها تجربة فكرية في مقاومة الاستهلاك السريع للمعنى. ففي عالم يُختزل فيه كل شيء إلى عنوان عاجل أو مقطع قصير، يأتي المتنبي في تغريدات الدخيل كنوع من «التباطؤ الثقافي»، كأنما يقول لنا: تمهّلوا، ما زال للكلمة وزنٌ، وللمعنى هيبة.

هذا التباطؤ ليس سكوناً، بل مقاومة ذكية. فهو يعيد إيقاع اللغة إلى مقامها الطبيعي. ومن هنا يمكن القول إن الدخيل لم يكتف بإحياء المتنبي، بل أعاد تعريف «التغريدة» ذاتها: من أداة ترفيهية إلى مساحة للتأمل الجمالي.

ولعل سر نجاحه أن المتلقي يشعر بأن تركي لا «يشرح» المتنبي فقط، بل يحاوره. وهذا الحوار هو ما يمنح النص حياة ثانية. فالمتنبي في وعي الدخيل ليس ماضياً يُستعاد، بل زمن يتجدد في فضاء رقمي، يحمل في ذاته حكاية الثقافة العربية الحديثة.

تُظهر متابعة تغريدات الدخيل أن كل بيت من أبيات المتنبي يعاد اكتشافه من خلال تجربة القراء أنفسهم. فالمنصة الرقمية بما تتيحه من تفاعل فوري سمحت بتحويل القراءة من فعل فردي إلى حوار جماعي حول المعنى. وهذا التحول هو أحد أعظم إنجازات مشروع «من روائع أبي الطيب».

لقد نجح تركي في أن يجعل الناس يتبادلون الآراء حول الشعر، كما يتبادلون الأخبار أو النكات، لكن هذه المرة بوعي جمالي راقٍ. ولعل هذا هو جوهر مشروعه غير المعلن: أن يعيد للناس شغفهم باللغة العربية كوسيلة تفكير، لا كأداة تعبير فقط.

إذا تأملنا طريقة الدخيل في اختيار أبيات المتنبي، فسنجد أنه لا يختارها عشوائياً. إنها أبيات تمثل مواقف إنسانية كبرى: الكبرياء، الوفاء، الصبر، الطموح، الحكمة. كأن المتنبي في اختياره يصبح مرايا متعدّدة للإنسان العربي المعاصر. فكل تغريدة هي نافذة على النفس قبل أن تكون نافذة على النص.

لقد فهم الدخيل أن سر خلود المتنبي لا يكمن في فصاحة لغته وحدها، بل في عمق رؤيته للإنسان، ولهذا جعل مشروعه نوعاً من الفلسفة الشعبية للشعر. هو يبسط المتنبي دون أن يسطحه، ويقربه دون أن ينتقص من هيبته، ليصل إلى جمهور واسع دون أن يفقد وقار المعنى.

هناك تغريدات في هذه السلسلة حققت آلاف الإعجابات وإعادة النشر، وكان القاسم المشترك بينها أنها تمسّ قضايا إنسانية وجودية. حين كتب تركي: القيمة ليست في العدد، بل في الصدق، ردّ عليه أحد المتابعين: صدق المتنبي وصدقت أنت، ما أكثر الخيل القليلة في زماننا. وحين نشر بيت «على قدر أهل العزم تأتي العزائم» انهالت التعليقات التي تروي تجارب شخصية عن الكفاح والنجاح والتحدي. لقد تحّل؟؟؟؟؟ الشعر إلى ساحة اعتراف جماعي، وصار المتنبي، عبر الدخيل، صوتاً للجماعة لا للفرد.

من منظور نقدي، يمكن القول إن تجربة تركي الدخيل تفتح سؤالاً مهماً: هل يمكن للتراث الشعري والأدبي أن يعيش في بيئة رقمية دون أن يفقد أصالته؟ مشروعه يقدم إجابة عملية: نعم، إذا حُمل بروح معاصرة وفكر واع.

فالتغريدة ليست خيانة للقصيدة، بل طريقة جديدة في إعادة تدوير المعنى. وكما قال أحد النقاد المعاصرين: كل جيلٍ يخلق متنبيَه الخاص. ويبدو أن تركي الدخيل هو من خلق متنبينا الجديد: متنبياً يكتب بلساننا، ويحيا في زمننا، ويذكرنا بما كنا عليه يوم كانت اللغة موطنا للكرامة والدهشة معاً.

نحن واللغة

في جوهر هذا المشروع تكمن فكرة بسيطة وعميقة في آن: أن اللغة العربية رغم ما يُقال عن صعوبتها أو تراجعها لا تزال تمتلك القدرة على تجديد نفسها إذا وُجد من يؤمن بها. وقد آمن بها تركي الدخيل، لا كشكل جمالي فحسب، بل كوسيلة فهم للعالم. فهو لا يستعرض معرفته بالشعر، بل يُنصت إلى ما يقوله الشعر عن الإنسان. إنه يمارس فعل القراءة كنوع من العبادة العقلية، ويحوّل التغريدة إلى تسبيحة فكرية قصيرة في فضاء مزدحم بالضجيج.

ولهذا كله يمكن القول إن تركي الدخيل لم يكن يشرح المتنبي، بل كان يشرحنا نحن أبناء هذا الزمن الرقمي المرهق من خلاله. لقد جعل المتنبي مرآةً تعكس ملامحنا الحديثة بوضوح مذهل. وحين قال: «أنا مريض بـ المتنبي.. وأرفض العلاج». كان يعلن أن بعض الأمراض ليست داءً، بل طريق للوعي. ذلك الوعي الذي يجعلنا ندرك أننا لا نُشفى من الجمال، ولا ينبغي لنا أن نحاول.

لماذا نحتاج المتنبي اليوم؟ نحتاج المتنبي لأننا في زمن فقدنا فيه الثقة بالكلمة. نحتاجه لأن الكبرياء الذي كان يحمله صار طاقة مقاومة ضد الخواء. ونحتاجه لأن الشعر في صورته الأصلية كان وما زال لغة الذات حين تعجز اللغة العادية عن التعبير. لقد أثبت تركي أن الشعر لا يموت، بل يتبدل شكله فحسب، وأن التغريدة، مهما صغرت، يمكن أن تكون وعاء لمعنى خالد.

في النهاية، يقدّم مشروع «من روائع أبي الطيب» درساً للثقافة العربية كلّها: أن التراث ليس الماضي، بل الحاضر الذي لم نكتشفه بعد. وأنّ كل جيل يحتاج إلى من يُعرّفه على نفسه من جديد عبر الشعر. وقد فعل الدخيل ذلك بلغة هادئة، ناصعة، تنتمي للمستقبل بقدر ما تستند إلى الجذور. لقد نجح في أن يجعل المتنبي الذي كتب للحكام والسيوف يخاطب الإنسان الذي يعيش بين الشاشات والخطوط الرقمية. وبهذا المعنى، فإنه لم يشرح المتنبي فحسب، بل كتب فصلاً جديداً في تاريخه، عنوانه: حين يتكلّم الشعر بلغة العصر.

نقلا عن الوطن السعودية

تم نسخ الرابط