بقلم مها عبدالله: المجتمع الذي تغير
سأبدأ من النقطة التي يحاول كثيرون تجاوزها سريعًا:
نحن لا نعيش مجرد تطور اجتماعي طبيعي، بل تحوّل يسبق قدرتنا على الفهم. تحول يغيّر إيقاع الحياة اليومية، ويعيد تشكيل طريقة تفكير الناس، يقلب أولوياتهم، ويشيع نوعًا جديدًا من «القلق الجماعي» الذي ما زلنا نتعامل معه كأنه أمر عابر.
ولأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يحس بوجوده ، ويعطي هذا الوجود قيمة ، فإن هذا الوجود يؤسس لتاريخيته وذاكرته ، و التحول الاجتماعي اليوم لم يتحقق نتيجة نقاش مجتمعي أو حاجة محلية، بل نتيجة تأثيرات تراكمات حتمية فرضتها «العولمة»، متغيرات عصر قادمة من كل اتجاه، منصات تعيد بناء الوعي، تشكل أذواق الناس، محتوى يقدم رؤى جديدة للحياة، سرعة تصنع أوهامًا عن النجاح. هذا التغيير لا يخضع لمبادئ واضحة، بل يتحرك وفق موجات شعبية، يتصدرها من يملك صوتًا أعلى، لا من يملك فكرة أعمق.
هناك فجوة كبيرة بين مجتمع يتغير لأنه قرر ذلك، ومجتمع يتغير لأنه خاف أن يتأخر. وهذه الفجوة هي التي صنعت حالة التوتر التي نعيشها اليوم. فمن جهة، هناك جيل يشعر أنه محاصر بفكرة الكمال؛ جيل مطالب بأن يكون حاضرًا، متفوقًا، ناجحًا، محبوبًا، ومرئيًا طوال الوقت. كل هذا يحدث بينما يفتقد هذا الجيل أبسط احتياجاته: مساحة طبيعية للخطأ، تجربة هادئة للنضج، وقدرة على بناء حياة غير محسوبة على الجمهور.
ومن جهة أخرى، هناك جيل يعيش ارتباكًا حقيقيًا. يرى العالم يتحول أمامه بسرعة لا تشبه سرعته. يراقب تغير العلاقات العائلية، وأنماط القيم، وطريقة الحديث عن النجاح، فيجد نفسه إما في موقع الدفاع المستمر، أو النقد القاسي، أو العزلة التي تمنحه شعورًا بالأمان ولو مؤقتًا.
هذه التحولات ليست مشكلة بحد ذاتها، المشكلة في كيفية تلقيها! نحن نميل إلى ردود الفعل، لا إلى التفكير، نميل إلى تقليد ما يبدو ناجحًا، لا إلى صناعة نموذج يناسب هويتنا، نميل إلى الانبهار السريع، لا إلى البناء البطيء، نشأت ظاهرة مثيرة للقلق:
مجتمع يناقش كل شيء بصوت عالٍ، لكنه يتهرب من الأسئلة التي تكشف عمق المشكلة.
هل صار النجاح قيمة قابلة للعرض فقط؟ هل أصبحت العلاقة الاجتماعية صفقة؟ هل فقد المجتمع جزءًا من حميميته لصالح حضور إلكتروني/ رقمي لا يشبه الحياة؟ هذه الأسئلة مؤلمة، لكنها ضرورية، لأنها تكشف حجم الصراع بين ما نريده وما يُفرض علينا.
ومع ذلك، ما زال هناك جانب إيجابي لا يمكن تجاهله. فهذه التحولات أوجدت وعيًا جديدًا، ودفعت كثيرين للبحث عن معنى أوضح لحياتهم. هناك أصوات شابة بدأت تراجع فكرة المقارنة، وتعيد تعريف النجاح، وتتمسك بثقافتها وهويتها رغم الضجيج. وهناك شباب بدأ يرفض الضغط الاجتماعي، ويبتكر طريقه الخاص، ويتبنى نموذجًا جديدًا يعبر عن رؤية سعودية ناضجة لا تشبه أي نسخة أخرى.
أخيرا.. قوة المجتمع لا تظهر في حجم التحول الذي يعيشه، بل في طريقة فهمه له. التغيير العشوائي لا يؤمن مستقبلًا، والتغيير الذي لا يمر عبر تمرحلات الوعي يتحول إلى موجة تبتلع الإنسان قبل أن تمنحه فرصة للوقوف. نحن بحاجة إلى مجتمع يختار إيقاعه، لا يتنازل عن قيمه، ويعيد تشكيل التحول بما يخدمه. المجتمع الذي يعرف قيمته يقود التغيير بثقة، ولا يسمح للتغيير أن يجره/ يجرفه بلا وعي!
نقلا عن الوطن السعودية