بقلم أنس الرشيد: مباراة بلا صافرة
«آخر واحد حارس»، كانت قاعدتنا حينما كنا نلعب كرةَ القدم في الحارة القديمة. ولا أدري لماذا لا نعيّن حارسًا ثابتًا؟ لماذا نهرب من مسؤولية الحراسة؟ هل لأنَّ بابَ المرمى صورة للنهاية التي ستلقى على كاهل الحارس؟ وإذا كان ذلك دقيقًا فهذا يعني أنَّ الحارس هو من يحرس الحياةَ من أن تنتهي بمعنى ما، فاللاعبون يتحركون لجلب الهدف، أما هو فيتحرك ليمنعه.
أستعيدُ تلك الذاكرة القديمة في الصغر لأتأمل مفارقة أنَّ الإنسان يهرب من الحراسة، وفي الوقت نفسه يحرس المعنى من الاكتمال. قد تكون هذه المفارقة غامضة، ولكن أظن أنَّ سؤال: «لماذا لا نستطيع أن نتمّ الكتاب الأخير؟» يشرح هذه المفارقة، وأعني بالكتاب الأخير ذلك الكتاب الذي لو كتِبَ لانتهى السؤال عن ألم الوجود وأُغلِقت الدائرة بين السماء والإنسان، بين البداية والنهاية، ومع ذلك ظلَّ حلم الكتاب الأخير يسكن الإنسان محاولًا تدوينه في صورٍ شتى عبر التاريخ، لكن في كلِّ مرة يُحاول فيها أحد أن يكتب ذلك الكتاب تنهض قوة في داخله لإجهاض هذا الاكتمال؛ لنتأمل ما رواه البخاري من أنَّ النبيَّ، صلى الله عليه وسلم، قال في مرضه الأخير: «هلم أكتب لكم كتابًا لن تضلوا بعده» فقال عمر: «حسبنا كتاب الله»، فاختلف الحاضرون وعلت أصواتهم فقال النبي: «قوموا عني». هذه لحظة حيل فيها بين النبوة والكتابة، وقد وجدتُ الشاطبي يُشير إلى أمرٍ مهم وهو أنَّ الله أوحى للنبي بأن يكتب لهم كتابًا ينسخ به آيةَ (ولا يزالون مختلفين)، ولكن في الوقت نفسه قضى الله ألّا تُنسخ الآية. وقد لاحظتُ أنَّ هذه الحكاية التي سردها لنا البخاري قد تجسّدت في مكانٍ آخر، وتحديدًا في مجلس المعري، ففي رواية القفطي في إنباه الرواة أنَّه حين اشتد المرض بأبي العلاء دعا (بني عمه) وقال لهم: «اكتبوا»، وأملى عليهم حديثًا غير مفهوم، فقال القاضي أبو محمد «أحسن الله عزاءكم، فإنَّ الشيخ ميت»، وفي الغداة مات. هذه لحظة تُشبه اللحظةَ التي أُبعِدَ القلم فيها عن النبي، وهو ما يُفسّر -عند بعضهم كالقاضي عياض- فعلَ ابن الخطاب؛ إذ قد خشي أن يكتب النبي أمورًا في لحظةِ المرض وما يكون من عوارضه من شدّةِ وجع ونحوه، فيكون مجالا للطعن في معجزته، وإفساد شريعته. واللافت في حكاية المعري أنَّ حديثه لم يصلنا لننظر أمفهوم هو أم لا؟ ثم إنَّ دارسي المَعري لم يعهدوا أنه يستكتب (أبناء عمه) إلا إن كانت وصيّةً نَسَبيّة، لكن حين نرى شيوعَ هذه الروايةِ في التراث، وتدخّل أناس من خارج قربةِ النَسب في توضيحِ غَلط المعري، نستبعد كونها وصية نسبية، فالقاضي أبو محمد استفتى ابنَ بطلان في المسألة فقال: «هذا رجل ذكي، ولم تجر عادته بأن يواصل السهو، فلمَّا أخبرتموني بأنه غلط، علمت أنَّ عقله قد نقص وفكره فسد، فحكمت عليه بالموت». ابن بطلان -في حكاية المعري- يُحيلنا على اسم شبيهٍ به، وهو ابن بَطال شارح صحيح البخاري، تشابه مدهش؛ حيث (بطل) تعني من أُبطِل أمره، أو من نُزعت عنه القدرة وهو في ذروة المحاولة.
التفاتة:
ظل الإنسان يحرس المعنى من الاكتمال؛ فقد روي أنَّ العباس قال لعلي بن أبي طالب: لنسأل النبي فيمن أمر الأمة بعده، فقال علي: «لا والله، لا أسأله، فإن منعها لم يُعطناها الناس بعده أبدًا». وقد كان جواب علي يختصر قلق الإنسان وخوفه من أن يُقال القول الأخير. منذ تلك اللحظات ظل الكتاب الأخير فكرة مؤجلة تتحول من زمن إلى زمن، حتى صار الكتاب هو حركة التاريخ، والعقل هو الذي يكتب الفصول، لكنَّ المصير لم يتغيّر، فكما مُنع اكتمال القول في مجلس النبوة كما ذكر البخاري، تأجل اكتماله في التاريخ أيضا؛ إذ ما إن زعم هيغل أنَّ الروح بلغت تمامها حتى جاء ماركس ليقلب الصفحة ويقول لم يبدأ الكتاب بعد، ثم أتى جاك دريدا ليسخر منهما قائلا: إن الصفحة نفسها غير موجودة، فما نسميه تاريخا ليس إلا أثرا يتأجل ظهوره كلما حاولنا قراءته.