بقلم أنس الرشيد: ديكارت يسرق منحوتة القديس

بقلم أنس الرشيد: ديكارت يسرق منحوتة القديس.. يقال بأن ديكارت شكَّ شكًّا مطلقا حتى وصل إلى شيء كلما شك فيه رسخ أكثر وهو (ذاته)، لأنه لا يعرف إلا أنه يشكَ، وكلما شك يتأكد من وجوده، على عكس العالم الخارجي كلما شك فيه لا يتأكد وجوده، فقال: «أنا أشك إذن أنا موجود» المقولة التي تحولت إلى «أنا أفكر»، والمشهور أن ديكارت فكَّر بهذا المقولة بسردية فلسفية في سياق سؤال: «كيف نصل إلى معرفة يقينية»؟ إلا أن ثمة سردية متوارية بين سطور هواجسه الفلسفية تقول بأنّ ديكارت فكَّر بالمقولة في سياق آخر، ومهمة هذه المقالة الحفر في دهاليزها.
بقلم أنس الرشيد: ديكارت يسرق منحوتة القديس.. قبل أن يؤسس ديكارت نظاما فكريا في القرن السابع عشر، كان الفنان المعماري فيليبو برونليسكي في القرن الخامس عشر يؤسس نظامًا بصريًا، حيث ذهب إلى روما وقاس أبعاد القصور والمعابد، وصوّر أشكالها وزخارفها، وكانت نيته أن يزاوج بين العمارة الرومانية والأشكال الجديدة التي تشتعل شهوة في جسد النهضة الإيطالية، وقد خرجَ لنا -من وراء هذا التزاوج- ذرية تتسم بالرشاقة، فلا هي بثقل والدها العمارة الرومانية ولا بنحف والدتها تجربة النهضة الإيطالية، وتُعدّ قبةُ كاتدرائية فلورنسا من ثمراتِ هذا التزاوج، فهي قبة خارجية كبيرة لا يمكن أن تحمل بالطريقة التقليدية -استخدام دعامات وسقالات خشبية- فتصورت للرائي على أنها معجزة بصرية، لرشاقتها لم تحتج إلى ما يحملها، لكن إذا دخل الرائي إلى الكاتدرائية وجد قبة داخلية تحمل القبة الخارجية الضخمة، فتحولت القبتان إلى قبة واحدة، بغاية (علمية لاهوتية)، علمية لأننا حين نكتشف السر الذي أنقذ به برونليسكي البنائين من مأزق بناء قبة كبيرة لا تحملها الدعامات التقليدية، نجده يقوم على معايير هندسية دقيقة بتوزيع الوزن، وهي لاهوتية لأن برونليسكي أراد أن يخفي القبة الصغيرة لترى العين القبة الكبيرة على أنها معجزة إلهية لا يحملها شيء، فيستعيد بها أهمية العمارة الدينية أيام العظمة الرومانية. هذا التشابك بين العلم واللاهوت أول خيط يربط برونليسكي بديكارت الذي يشبه فعله فعل القبتين، فالقبة الخارجية تعادل الذات عند ديكارت، الذات التي تؤكد وجود ديكارت، كما أن مرأى القبة الخارجية يؤكد وجودها، والقبة الداخلية تعادل الإله الذي أعطى الإنسان عقلًا يحمله إلى أن يكون متألها عقلانيًا في آن واحد، فديكارت أثبت وجود الله بواسطة الذات اليقينية؛ إذ إن فكرة الكمال الموجودة في عقل الإنسانِ الناقص دليل على وجود ذات كاملة هي الله، وهذه الذات الإلهية لا يمكن أن تخدع الذات الإنسانية كما لا يمكن أن تخدع القبة الداخلية القبةَ الخارجية، لأنَّها تحملها بطريقةٍ علمية، والله يحمل الإنسانَ بطريقةٍ علميةٍ عقلية.
بقلم أنس الرشيد: ديكارت يسرق منحوتة القديس.. وأما الخيط الثاني الذي يربط بين برونليسكي وديكارت فنجده في علم المنظور الخطي الذي واجه به برونليسكي ضبابية اليقين؛ إذ في أواخر العصر القوطي سيطر على الفنانين الأوروبيين منظار يخدع المشاهد بأنه يرى أبعاد اللوحة كما هي في الواقع فعلا، كأن ترسم شخصيتان أمام بعضهما، وجعل الشخصية الأمامية تحجب -جزئيًا- الأخرى، فيظن المشاهد أنه عرف المسافة بين الشخصيتين، أو كأن تجعل ألوان الشخصية متدرجة، لأنه كلما ابتعد الجسم عن المشاهد بدأ يتلاشى فيدرك الرائي أبعاد الشخصية ومستوى خطواتها. هذا الخداع لم يطب لبرونليسكي حيث عده تشكيكا في قدرة الفنان على الوصول إلى الحقيقة ثم إيصالها للمشاهد، فسعى لوضع علم المنظور الخطي والأبعاد الثلاثة، ومفاده أن الرائي إلى الخطوط المتوازية في الواقع من زاوية ثابتة سيشهد التقاءها عند نقطة واحدة في الأفق، مثل لو وقف زيد على سكة حديد طويلة ومستقيمة، فإنه سيرى القضبان المتوازية تتقارب وتلتقي في نقطة بعيدة في الأفق. وراهن برونليسكي على علمية فعله هذا، إلى درجة أن رسم مبنى معمودية كاتدرائية فلورنسا على لوح خشبي، ثم ثقبه عند نقطة التلاقي ثقبًا صغيرًا، ووضع مرآة بمواجهته، ثم دعا أحد المشاهدين لينظر-من الثقب- إلى انعكاس الرسم في المرآة، فرأى أن الرسم يطابق الواقع الذي يراه بالعين المجردة.
بقلم أنس الرشيد: ديكارت يسرق منحوتة القديس.. سنلاحظ أن برونليسكي نقل الرسم من تشويش مذهبي إلى يقين منهجي، وهذا عينه فعل ديكارت، فنقطة التلاقي -عند برونليسكي- تشبه نقطة الذات التي كلما شك فيها ديكارت رسخت أكثر، فقال: «أنا أفكر إذن أنا موجود»، ولكي تنظر إلى الحقيقة الوهمية لابد أن تتمركز حول الذات كما تمركز المشاهد حول نقطة التلاقي وهو يطل من الثقب؛ لأن التجربة التي أجراها برونليسكي أعطت صاحبها وهما حقيقيا، فهو وهم لأن ما يراه المشاهد في المرآة ليس هو المشهد الواقعي المحسوس فعلا، إذ الخطوط لا تلتقي حقيقة على أرض الواقع، وهو حقيقي لأن الرسم يطابق المشهد الذي يراه بعينه المجردة حين يتمركز؛ لهذا كان العلم هو الوهم الحقيقي.
التفاتة:
بقلم أنس الرشيد: ديكارت يسرق منحوتة القديس.. تسلَّل ديكارت -ذات شهوة فكرية- إلى كنيسة القديس ميخائيل، بعد أن سمع أنها تضم منحوتة للقديس جورج صنعها النحات دوناتلّلو في ضوء نظرية علم المنظور والأبعاد الثلاثة، ولكن ديكارت -بذكائه وتوقد ذهنه- رأى المنحوتة بطريقة مدهشة وجديدة جعلته يصرخ «أنا أفكر إذن أنا موجود». وذلك لأن في الزمن القوطي كانت وجوه القديسين في المنحوتات تدل على العالم الآخر وضبابية اليقين الدنيوي، أما منحوتة دوناتللو فتقول أنا من هذا العالم الأرضي، وأراقب بثبات تحركات العدو كأي شجاع يتجهز للغزو. وقد لاحظ ديكارت أنّ دوناتللو وزع الضوء والظل لإبراز ملامح القديس جورج لتصير كأنها تتحرك وهي ثابتة، وهذا الأمر غير مضمون القداسة، وجعلها ثابتة في المكان لكنها تشعر بالحركة وإدراك الواقع المتغير. أليس هذا فعل ديكارت حين ارتكز على الأنا الثابتة ليصل إلى موجودات الحياة، ولكل المتغيرات؟