بقلم ميسون الدخيل: ليتهم يقرأون تاريخهم
شكلت معاداة الشيوعية في الخمسينيات من القرن الماضي في الولايات المتحدة فترة من الخوف الشديد والشك في الاتحاد السوفيتي وأيديولوجيته، لقد كانت حكومة الولايات المتحدة وعامة الناس مقتنعين بأن الاتحاد السوفييتي كان يشكل تهديدًا لأسلوب حياتهم وأنه من الضروري اتخاذ إجراءات لحماية أنفسهم، كان يُشار إلى الشيوعيين في كثير من الأحيان باسم «الحمر» بسبب ولائهم للعلم السوفييتي الأحمر، لهذا يشار إلى تلك الفترة بالخوف الأحمر للدلالة على الهستيريا التي صاحبت تلك الحقبة من ملاحقات وتعديات على الحريات، فلقد شعر الأمريكيون بآثار الذعر الأحمر على المستوى الشخصي، وشهد الآلاف من الذين زُعم اتهامهم بالتعاطف مع الشيوعية تعطل حياتهم! لقد تمت مطاردتهم من قبل سلطات إنفاذ القانون، وتم عزلهم عن أصدقائهم وعائلاتهم وتم طردهم من وظائفهم، بينما اتضح لاحقًا بأن معظمهم كانوا ضحايا لادعاءات كاذبة أو لم يفعلوا شيئًا أكثر من ممارسة حقهم الديمقراطي في الانضمام إلى حزب سياسي، أو حتى كانوا مجرد أصدقاء أو معارف لأعضاء من الحزب.
يمكن إرجاع أصول معاداة الشيوعية في الخمسينيات إلى نهاية الحرب العالمية الثانية وصعود الاتحاد السوفيتي كقوة عظمى، هنا كانت حكومة الولايات المتحدة والجمهور قلقين بشأن انتشار الشيوعية وإمكانية تهديدها لأسلوب حياتهم، الديباجة نفسها التي تستخدم اليوم من قبل دعاة «إسلام فوبيا» ودعاة «معاداة السامية»! وقد تفاقم هذا الخوف بسبب تورط الاتحاد السوفييتي في الحرب الكورية وانتشار الشيوعية في أوروبا الشرقية.
اتسمت الحركة المناهضة للشيوعية في الخمسينيات بعدد من التكتيكات المختلفة، بما في ذلك استخدام الدعاية، ووضع القائمة السوداء للشيوعيين المشتبه بهم، وإنشاء لجنة الأنشطة غير الأمريكية بمجلس النواب (HUAC)، وشكلت هذه اللجنة وكالة حكومية مكلفة بالتحقيق في الشيوعيين المشتبه بهم واجتثاثهم في الولايات المتحدة، ووصلت الحركة المناهضة للشيوعية إلى ذروتها في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، مع عصر مكارثي، وسميت بالحركة الماركثية.
كان السيناتور جوزيف مكارثي شخصية بارزة في الحركة المناهضة للشيوعية، واستخدم نفوذه لتوجيه اتهامات بالشيوعية ضد عدد من الأفراد البارزين، بما في ذلك نجوم هوليود والمسؤولين الحكوميين وتسبب بالتالي: أولا، دمر سمعة وحياة الكثير من الناس من خلال اتهامهم دون أدلة موثوقة، ثانياً، استخدم اتهامات بالتعاطف مع الشيوعية للهجوم المضاد على أي شخص ينتقد أساليبه، وثالثًا، عارض حرية التعبير لأن قسمًا كبيرًا من خطابه افترض أن أي مناقشة للأفكار التي تقوم عليها الشيوعية كانت خطيرة وغير أمريكية، ووجد الدعم لأنه من وجهة نظر أنصاره، كان من الضروري في ذلك الوقت تحديد العملاء الأجانب وقمع «المنظمات المتطرفة»، فقد كان المعتقد السائد أن العناصر التخريبية تشكل خطرًا على الأمن القومي للبلاد، ولذلك تم تبرير مثل هذه الإجراءات المتطرفة، حتى لو تضمنت الحرمان من الحريات المدنية!
اكتسب مكارثي وفريقه سمعة سيئة خلال السنوات العشر التي قضاها في مجلس الشيوخ بسبب توجيه اتهامات لا أساس لها كانت موجهة في البداية إلى موظفي الحكومة، لكنها استهدفت لاحقًا أفرادًا من جميع مناحي الحياة.
إن ممارسة مكارثي المتمثلة في توجيه اتهامات علنية بعدم الولاء السياسي أو التخريب دون دليل واستخدام أساليب تحقيق غير عادلة أدى إلى أن يُتهم لاحقًا بإيذاء أولئك الذين مثلوا أمام لجنته وقمع الحقوق والحريات المدنية الأساسية، فلقد كان مجرد اتهام أي مواطن بالتعاطف مع الشيوعية كافيًا لتدميره، وتم إنهاء العديد من الحياة المهنية، لأن هؤلاء المتهمين لم يكن بوسعهم أو حتى مسموح لهم أن يجادلوا ببراءتهم!
هل يضرب كل هذا وترًا مشابهًا لما يحدث اليوم عندهم بالنسبة لكل من يقف مع الشعب الفلسطيني؟ أبسط مثال على ذلك مؤخرًا قضية طلبة جامعة هارفرد الأمريكية، حيث نشر طلبة عدة جمعيات في الجامعة منشور يظهر تعاطفهم مع الفلسطينيين! أي متابع سوف يجد في التعليقات على الحدث ما يشمئز منه البدن فكيف بالضمائر الحية؟! مطالبات بطردهم، وأخرى بحرمانهم من العمل في أي شركة، بل وفصل ومطاردة أي أستاذ جامعي يتعاطف معهم! هستيريًا أدت إلى خروج الجامعة وإعلان اعتذارها عن الحدث! والمضحك فعلًا أن أحدهم كتب يقول بأنه يخاف على نفسه في حرم الجامعة من هؤلاء الطلبة! يا للوقاحة يتم الهجوم بهستيرية واستبداد وخرق واضح لحرية الرأي الذي يتشدقون به ثم يطالبون بالحماية!
في عام 1957، وضع حكم المحكمة العليا في قضية «ييتس» ضد الولايات المتحدة حدًا للملاحقات القضائية بموجب «قانون سميث» من خلال مطالبة الحكومة بتقديم دليل ملموس على أن المدعى عليه قد اتخذ إجراءات محددة للإطاحة بالحكومة، ولم يعد «قانون سميث»، الذي تم استخدامه لمحاكمة الأفراد الذين دعوا إلى الإطاحة بالحكومة من الناحية النظرية، كافيًا، لقد وضع «قرار ييتس» حدًا فعليًا للمكارثية، التي اعتمدت بشكل كبير على الإضرار بسمعة الناس ومهنهم بدلًا من تقديم أدلة واقعية لدعم هذه الادعاءات، ولكن بالرغم من أن مناخ الخوف والقمع بدأ يتراجع خاصة في نهاية الخمسينيات، فإن الخوف الأحمر استمر في التأثير على النقاش السياسي في العقود التي تلت ذلك، وغالبًا ما يتم الاستشهاد به كمثال على كيف يمكن للمخاوف التي لا أساس لها أن تعرض الحريات المدنية للخطر!
ترتبط اليوم المكارثية بشكل شائع بأي إجراء حكومي يقيد أو يضعف الحقوق والحريات المدنية الأساسية باسم الأمن القومي، مع قمع الآراء السياسية أو الاجتماعية التي لا تحظى بشعبية، وتتضمن هذه الممارسة استخدام القائمة السوداء وأشكال أخرى من المضايقات للضغط على الأفراد للامتثال للمعتقدات السياسية الشعبية، بمعنى أنه أي شخص يوجه اتهامات لا أساس لها أو يجري تحقيقات غير متوازنة بهدف إسكات الآخرين أو تشويه سمعتهم يعتبر ممارسًا للمكارثية، وبهذا ينتهك هذا السلوك التعديلي الأول والرابع عشر للدستور، الذين يضمنان الإجراءات القانونية الواجبة ويحميان الحريات المدنية.
ليتهم فقط يقرأون تاريخهم لعلهم يجرون بعض المقارنات بين ما حدث في الماضي وما يحدث اليوم من تعديات! أي مواطن يتجرأ ويعلن تعاطفه مع القضية الفلسطينية يتم ملاحقته من تشويه سمعة وطرد من الوظيفة أو رسائل الكراهية والتهديد! ولكن هنالك ضوء في نهاية النفق، فكل من كان يدعم الصهيونية المسيحية بات اليوم ضعيفًا مع انخفاض قبضة التنويريين على المشهد الإعلامي، بعدما كان لهم صولة وجولة على التلفاز من قنوات وندوات، دخلت الإنترنت وبدأ الأمريكيون يرون القصص الحقيقية من مصادرها، والذي يدل على ذلك التعليقات ومقاطع التأييد التي بدأت تنتشر لديهم، وانقلب السحر على الساحر، أصوات على استحياء بدأت تعلو ولسوف تشكل في القريب ضغطًا على الرأي العام والدولة عندهم.
أترككم مع جملة شهيرة من رواية جورج أورويل «مزرعة الحيوانات»: «جميع الحيوانات متساوية، ولكن بعض الحيوانات أكثر مساواة من غيرها»، حيث ينتقد فيها الشيوعية وستالين، ولكن المفارقة هنا أنني أجد وكأنه يتحدث عن المجتمع الغربي اليوم الذي يتشدق بحرية الرأي والمساواة والحرية! هنالك ضوء في نهاية النفق، فكل من كان يدعم الصهيونية المسيحية بات اليوم ضعيفًا مع انخفاض قبضة التنويريين على المشهد الإعلامي.