بقلم ميسون الدخيل: بعقل نقي وقلب صادق تأتي الحكمة
في ثقافتنا، نميل إلى الاعتقاد بأن الحكمة تأتي من الكتب، وأن العقل هو مقر كل المعرفة؛ خبرة كانت أم معلومات، لكن الحكمة ليست شيئًا يمكننا اكتسابه بسهولة أو بشكل عرضي، فهي ليست متعلقة بالعقل فقط، بل متعلقة بالقلب أيضًا، لأنه بالرغم من أن عقولنا يمكن أن تزودنا بالمعرفة التي لا غنى عنها، أحيانًا يكون لقلوبنا رؤى وتفسيرات لا تستطيع حتى عقولنا فهمها!
عندما نفكر بالأخلاق يجب أن يكون من منطلق أنها مطلقة وثابتة، وإلا فلن تكون أخلاقًا بل أفكار وتعليمات! لا ينبغي للأخلاق أن تتغير لتساير عصر أو تتقلص لتتماشى مع متطلبات الحداثة العالمية من حولنا؛ إن القلب يستوعب أن الأخلاق تنطوي على العدل والشفقة والرحمة كفعل بينما العقل يستوعب ذلك كمعلومة، فالعقل يتعامل في الأساس مع المعلومة من منطلق «الأنا» بينما القلب يتعامل مع المعلومة من منطلق «نحن».
إذا أيهما نُفعّل حكمة العقل أم حكمة القلب؟
إن الذكاء العاطفي والحدس هما أساس حكمة القلب، والتي تنطوي على الفهم والتواصل مع الذات والآخرين على أساس المشاعر والقيم، بينما نجد أن الذكاء المعرفي والفكري هما أساس حكمة العقل، والتي تتضمن تحليل المعلومات واتخاذ القرارات بناءً على المنطق والأدلة. نعم، كلا النوعين من الحكمة ضروريان، لكنهما يمكن أن يؤديا في بعض الأحيان إلى وجهات نظر وقرارات مختلفة! وعليه من الأهمية بمكان أخذ كليهما معًا بعين الاعتبار عند اتخاذ القرارات المهمة والتعامل مع المواقف المختلفة لتجنب اتخاذ القرارات التي قد تصل في بعض الأحيان إلى الوحشية من شدة قسوتها! وكمثال على هذه الحالة، جوناثان سويفت (مؤلف: رحلات جوليفر) الذي قدم ورقته التهكمية الصادمة: «اقتراح متواضع: للحيلولة دون أن يصبح أطفال الفقراء في إيرلندا عبئا على ذويهم ولجعلهم أعضاء نافعين في المجتمع»، والتي خاطب من خلالها شريحة معينة من الأرستقراطية الإنجليزية التي كانت تتفاخر حينها بحمل شعلة عصر التنوير (العقل)، ولكنها تسببت من خلال إصدار القرارات والأنظمة غير الإنسانية بالمجاعة في إيرلندا في القرن السابع عشر؛ بالمناسبة لم يضف أي جزء في نهاية المقترح ليعرض الحلول الإنسانية للتعامل مع المجاعة، بل إنه حتى لم يشرح ولم يوضح أسلوبه في الكتابة وفُهمت الرسالة: إن تفضيل استخدام حساب المادة (المصلحة الخاصة: حكمة العقل) على حساب الإنسانية (المصلحة العامة: حكمة القلب)؛ يؤدي إلى الدمار!
يجب أن يكون العقل والقلب مستعدين بالتحلي بالتواضع قبل أن يتمكنا من فهم الحكمة وتطبيقها بشكل كامل، فبدون التواضع، يمكن أن تؤدي المعرفة إلى الغطرسة وقساوة القلب؛ في حين أن المعلومات يمكن أن تزيد من الذكاء، فإنها يمكن أن تخلق أيضًا «حمقى متعلمين» إذا لم تكن مصحوبة بالتواضع! فقط عندما يرفض القلب أي شعور بالتفوق، يمكن تلقي الحكمة ومعالجتها بشكل كامل.
يتميز الفرد المتكبر بإحساس متضخم بأهمية الذات، وغالبًا ما يعتقد أنه يمتلك فهمًا متفوقًا للحقيقة. ومع ذلك، فإن النضج الحقيقي لا يكمن في معرفة الحقيقة فحسب، بل أيضًا في تطبيقها بطريقة مسؤولة ومتواضعة. المتكبرون يفتخرون بفهمهم، بينما المتواضعون يتواضعون ويدركون الحاجة إلى الإنسانية، وذلك لأن التواضع يمحو أوهام العظمة الفكرية ويضع احتياجات الآخرين في المقام الأول؛ يستخدم المتواضعون الحكمة لنفع الآخرين، وليس أنفسهم، وهنا يكمن الجمال، وهذا الأمر بالذات يصعب على الكثير فهمه خاصة ممن يستخدمون حكمة العقل فقط؛ يدافعون بسهولة عن أنفسهم ضد الحقيقة والخير بالتبرير أو الجهل أو الأنانية، بينما القلب يعرف ما لا يستطيع العقل معرفته، وهنا تكمن إنسانية حكمة القلب.
وأخيرًا سأترككم مع القصة التالية: تم تعيين الأخصائية الاجتماعية سماح، للعمل مع حالة جديدة؛ وضاح والذي كان يعاني من الإدمان والتشرد. شغلت حالة وضاح وقتها لأن قصته شدتها ورأت بداخله بوادر استجابة، لو أنه فقط كان لديها وقت أطول، وبالرغم من ذلك صممت على مساعدته حتى ولو استنفذ جُلّ فترات راحتها واجازاتها. ولكن كان لمشرفتها نهجًا مختلفًا ورأت أن وضاح يعتبر قضية خاسرة، نظرًا لسوء حالته النفسية والصحية والتقدم الذي يكاد لا يلاحظ في حالته! كانت سماح ممزقة ما بين رغبتها في مساعدة وضاح والالتزام بأوامر مشرفتها ونهجها العملي، ولكن بعد الكثير من التفكير والحيرة، قررت أن تطلب مشورة المشرفة مرة أخرى ولكن هذه المرة بعد أن قامت ببناء خطة علاج ذات أهداف قصيرة المدى قابلة للتحقق، وبعد الاعتراض والتردد قبلت المشرفة والتي كان يهمها أن الموارد والوقت يجب أن يصرفا على قضايا أخرى ليست فقط كثيرة ولكن أيضًا قابلة للعلاج والتحسن في وقت قصير يسمح بزيادة أعداد المستفيدين وإدخال للبرنامج من هم على قائمة الانتظار، ولكنها اشترطت بأن تلتزم سماح بما جاء في الخطة والزمن المحدد، وسوف يتم متابعة الخطة وتقييمها أسبوعيًا، وأي تراجع أو عدم تقدم ملحوظ سيتم الإلغاء والتخلي عن الحالة فورًا، وعليه حصلت سماح على الضوء الأخضر وتحركت بسرعة للتنفيذ.
من هذه الخبرة تعلمت سماح بأن استخدام حكمة القلب فقط أو حكمة العقل فقط قد يؤدي إلى قرارات قاسية أو قد يعكس صورة غير مكتملة للموقف، والنهج الأفضل هو استخدام كليهما، بهذا يتحقق التوازن ما بين التعاطف والرحمة وبين التطبيق العملي والواقعية؛ لقد اتبعت نهجًا أكثر توازنًا وواصلت العمل مع وضاح، ووضعت أهدافًا وتوقعات واقعية، وبالنظر إلى الوراء، أدركت أنها تعلمت درسًا مهمًا حول أهمية الاستخدام الثنائي لحكمة القلب وحكمة العقل، فلو أنها استخدمت حكمة العقل فقط؛ بأن حسبتها بالورقة والقلم لضاع مستقبل شاب، وربما أضاعت شيئًا من إنسانيتها معه!