هل يجب على المريض النفسي إخبار خطيبته قبل الزواج؟ المفتي يجيب
أرسل شاب إلى دار الإفتاء المصرية، يستفتيها ويسألها، عن حكم من يعالج من مرض نفسي، هل يجب عليه أن يخبر مخطوبته بذلك؟
ويجيب عن ذلك السؤال، فضيلة الأستاذ الدكتور شوقي إبراهيم علام، مفتي الديار المصرية، والذي قال في فتواه: بعد الرجوع للمتخصصين في الطب النفسي يتضح أن الأمراض النفسية تتفاوت في الشدة والضعف، وتختلف من شخص إلى آخر، ومنها ما يصعب التعايش معه لكونه يؤثر في مقصود الزواج أو يضر بالحقوق الزوجية، ومنها ما يمكن التعايش معه بلا إخلال بمقصود الزواج أو إضرار بها.
ولمَّا كان صديق السائل مريضًا بمرض نفسي كما ذُكِر بالسؤال؛ فإنه يجب عليه في هذه الحالة الرجوع إلى الطبيب المختص كي يحدد له حقيقة كون مرضه مؤثرًا فيلزمه إخبار الطرف الآخر به، أو غير مؤثر فلا يلزمه حينئذٍ الإخبار به.
واهتم الإسلام بعقد الزواج اهتمامًا بالغًا، وشرعَ لأجل انعقاده وضمان استقراره في ظلّ رضا طرفيه وسعادتهما عددًا من الأحكام الفقهية والقواعد المرعية، والتي منها: مراعاة حقوق طرفي عقد النكاح؛ سواء قبل انعقاده أو حال قيامه؛ قال تعالى: ﴿وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوف﴾ [البقرة: 228].
حقوق طرفي الزواج
ومن الحقوق الثابتة التي كفلها الشرع الشريف لطرفي عقد الزواج قبل انعقاده: تحقق الرضا بينهما على ما به تقوم حياتهما وتستقر أسرتهما؛ وذلك ببيان ما قد يحُولُ دون ذلك من عيوب في الخاطب أو المخطوبة.
فأخرج الإمام مسلم في "صحيحه" عن فاطمة بنت قيس رضي الله عنها: أنها جاءت النبيَّ صلي الله عليه وآله وسلم تسأله: أَنَّ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ وَأَبَا جَهْمٍ رضي الله عنهما خَطَبَاهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «أَمَّا أَبُو جَهْمٍ: فَلَا يَضَعُ عَصَاهُ عَنْ عَاتِقِهِ، وَأَمَّا مُعَاوِيَةُ: فَصُعْلُوكٌ لَا مَالَ لَهُ». فدلَّ الحديث على مشروعية إعلام المخطوبة بما في الخاطب من عيب ولو لم يكن مؤثرًا على مقصود الزواج؛ إما لتخييرها بين القبول به والرفض أو لأجل أن تحترز منه، وتعمل على تفاديه حال انعقاد العقد.
ولَمَّا كان المرض في عمومه ممَّا يحتاج إلى عناية خاصة، ورعاية مقصودة مِن المريض وأسرته؛ فقد فرَّق الفقهاء في اعتبار الأمراض مِن العيوب التي يفسخ بها الزواج ويلزم الخاطبَ الإخبارُ بها قبل العقد بين أمراض تخلّ بمقصود العقد أو تضرّ بالزوجة فيلزم الخاطب الإخبار بها قبل العقد ويحقّ للزوجة طلب الفسخ بها بعده، وأمراض لا تخلّ بمقصود الزواج ولا تضرّ بالزوجة فلا يلزم الإخبار بها ولا تستحق بها الزوجة الفسخ.
وبينما اقتصرت نصوص الفقهاء على تحديد أنواع من الأمراض الجسدية أو العقلية المسوغة لطلب الفسخ والتي يجب الإخبار بها؛ كالجب والعنة والرتق والفتق والجنون والجذام والبرص، إلا أنَّ الضابط الذي وضعوه، والعلة التي راعوها في تنزيل الحكم الشرعي يمكن تطبيقهما على جميع الأمراض التي لم تتناولها نصوصهم ولم تشملها عباراتهم؛ سواء أكانت أمراضًا نفسية سيكولوجية، أم جسدية فسيولوجية؛ لما تقرر مِن أنَّ "الْحُكْمَ يَدُورُ مَعَ عِلَّتِهِ وُجُودًا وَعَدَمًا"؛ كما في "تشنيف المسامع" للإمام الزركشي (3/ 54، ط. مكتبة قرطبة).
فالعلة: هي العيب أو الضرر المترتب على المرض إذا كان شيء منهما ممَّا يخلّ بالمقصود الأصلي من النكاح.
والحكم: هو الحقّ في طلب الفسخ أو الطلاق للضرر.
أنواع الأمراض النفسية
وقد أفاد المتخصصون من الأطباء النفسيين -الذين تم الاستماع إليهم في المسألة- أن الأمراض النفسية من حيث إمكانية التعايش معها ومدى تأثيرها على استقرار الحياة الزوجية والأسرية تنقسم إلى نوعين:
النوع الأول: الأمراض التي يصعب التعايش معها وتحمل تبعاتها من رعاية وعناية وكلفة مادية أو بدنية، ممَّا ينعكس بالسلب على استقرار الأسرة والحقوق الزوجية، ومن ذلك: أمراض الفصام "كالبارانويا"، والاضطرابات الذهنية الحادة كالذهان، والاضطرابات المزاجية كالهوس والوسواس الشديدين، وهذه الأمراض مما يجب على الخاطب أن يخبر مخطوبته بها قبل العقد عليها؛ حتى تكون مخيرة بين إتمام العقد أو فسخ الخطبة، ويُعَدّ كتمانه هذا النوع من الأمراض تدليسًا وغشًّا؛ لكونه أخفى عليها ما يلزمه الإخبار به ممَّا قد يخلّ بالمقصود الأصلي من عقد النكاح أو يضرّ بحق الطرف الآخر.
أضرار المرض النفسي على الزواج
ولا يخفى أنَّ ثبوت الضرر بالمرض النفسي أشد وقعًا وتأثيرًا على الحياة الزوجية من ثبوته في المرض الجسدي، إذ إن المرض النفسي إضافة إلى أنه يضر بالطرف الآخر وقد يخلّ بمقصود الزواج؛ فإنه يتطلب الاحتياج لرعاية دائمة، وكُلفة باهظة، وترقّب دائم، وتحمّل تبعات تحتاج إلى مَن يحسن التعامل معها، ويتطلب أيضًا قدرة نفسية خاصة تُعِين على التكيُّف معه وتَـحَمُّلِهِ؛ كما أفاد بذلك خبراء الطب النفسي، فهو بذلك أَوْلَى لثبوت العيب به من الضرر الجسدي، وهذا ما نص عليه الإمام محمد من الحنفية، والمالكية والشافعية والحنابلة؛ من أن مرض الصرع والوسواس -وهي أمراض نفسية- من العيوب التي تثبت الحق في الخيار.
والنوع الثاني: الأمراض التي يمكن التعايش بها ومعها، ولا تؤثر في استقرار الأسرة، ولا تضرّ بالحقوق الزوجية، فلا يلزم المريض حينئذ الإخبار به قبل العقد؛ لانتفاء الضرر منها أو انتقاص حق الطرف الآخر بسببها، ومن ذلك: اضطرابات القلق أو الخوف أو النوم أو الأكل، ما لم تصل بصاحبها إلى حد المبالغة أو الهيستيريا.
ولَمَّا كان المرض النفسي متفاوتًا شدةً وضعفًا، ومتباينًا من شخص إلى شخص، ومتردد الأعراض ما بين كونه مرضًا نفسيًّا يلزمه العلاج أو اضطرابًا سلوكيًّا يضبطه التقويم والإرشاد أو سمتًا شخصيًّا ينصلح ويُقَوَّم بالرقائق والآداب: كان المرجع في بيان ذلك وتحديده هو الطبيب المختص الذي يستطيع التمييز بين أعراض هذه الأحوال والوقوف على حقيقتها، وكان الرجوع إليه في شأن إخبار الطرف الآخر أو عدم إخباره أصلًا لا بد من مراعاته.
وينبني على ذلك: أنه لا يجوز بحالٍ أن يجعل الإنسان من نفسه حكمًا على نفسه في شيءٍ يتعلق بحق غيره عليه؛ لما تقرَّر في القواعد من "عَدَم جَوَازِ الْجَمْعِ بَيْنَ صِفَتَيِ الْخَصْمِ والْـحَكَمِ"، علاوة على أن غالب الأمراض النفسية يُصاحبها من الاضطرابات ما قد يؤثر على حكم المبتَلَى بها على نفسه، وقد نصَّ فقهاء الحنابلة على أنه يشترط في تزويج المريض: الرجوع إلى شهادة أهل الطب؛ كما في "كشاف القناع" للعلَّامة البهوتي (11/ 251، ط. وزارة العدل السعودية).
فإن أفاد الطبيب المختص المتابع للحالة بضرورة أن يخبر المريض الطرف الآخر بطبيعة مرضه؛ لما له من أثرٍ على الحياة الزوجية، فلم يخبره به: فإنه يلحقه الإثم على ذلك؛ لما في عدم الإخبار حينئذٍ من الغش والتدليس المنهي عنهما بصحيح النصوص الشرعية وصريحها؛ خاصة في شأن النكاح الذي احتاط الشارع له إعلاءً لمكانته وتعظيمًا لحرمته حتى وصفه ربنا تبارك وتعالى بالميثاق الغليظ في قوله سبحانه: ﴿وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا﴾ [النساء: 21].
عواقب الغش
ففي عموم الغش: أخرج الإمام مسلم في "الصحيح" عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «مَنْ غَشَّنَا فَلَيْسَ مِنَّا».
وفي خصوص الغش عند النكاح: أخرج البيهقي في "السنن الكبرى" و"الصغرى" عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال: تزوج النبيُّ صلى الله عليه وآله وسلم امرأةً، فرأى بكَشْحِهَا وَضَحًا، فردَّها، وقال: «دَلَّستُم عَليَّ»، وبوَّب لهذا الحديث: (باب ما يُرَدُّ به النكاح من العيوب).
وأخرج الإمام مالك في "الموطأ"، والبيهقي في "السنن" عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيِّبِ أَنَّهُ قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "أَيُّمَا رَجُلٍ تَزَوَّجَ امْرَأَةً وَبِهَا جُنُونٌ أَوْ جُذَامٌ أَوْ بَرَصٌ فَمَسَّهَا؛ فَلَهَا صَدَاقُهَا كَامِلًا، وَذَلِكَ لِزَوْجِهَا غُرْمٌ عَلَى وَلِيِّهَا".
وممَّا نُوصِي به في هذا السياق: أنَّ على مَن علم بإصابة أحد الأشخاص بمرض نفسي -سواء الخاطب أو المخطوبة أو الطبيب المعالج أو غيرهم- ألَّا يُشَهِّر به؛ كي لا تلاحقه أعينُ السفهاء وألسنتهم بالسخرية والازدراء، ممَّا يُعرِّضه للحرج والضيق، في حين أنَّ الشرع الشريف قد أمر بعدم إفشاء الذنوب والزلَّات؛ فقال صلى الله عليه وآله وسلم: «إِنَّ اللهَ حَيِيٌّ يُحِبُّ الْحَيَاءَ، وَسِتِّيرٌ يُحِبُّ السِّتْرَ، فَإِذَا اغْتَسَلَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَارَ» أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في "المصنف"، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن عطاء بن أبي رباح مرسلًا.
وسواء تمَّ الزواج أو لم يتمّ؛ فيجب ألَّا يُتَّخَذ العلم بهذا الأمر سبيلًا للمعايرة أو المعاملة السيئة أو الانتقاص من كرامته الإنسانية، حتى لا يصير المرض النفسي وصمة تلاحق المريض، وتؤثر على حقوقه الزوجية.
الضرر المسبب للطلاق
وقد راعى المشرع المصري الضرر الذي لا يمكن للمرأة المقام معه في حياة زوجية مستقرة، وجعله مبيحًا لها طلبَ الفسخ أو التفريق إن لم تعلم بوجوده وتقبل به قبل الزواج، ولم يفرق في ذلك بين كونه حاصلًا من مرض جسدي أو حاصلًا من مرض نفسي، ثم بيَّن أنَّ المرد في إثبات ذلك هو أهل الاختصاص؛ فنصت المادة رقم 9 من القانون رقم 25 لسنة 1920م على أنَّ: [للزوجة أن تطلب التفريق بينها وبين زوجها إذا وجدت به عيبًا مستحكمًا لا يمكن البرء منه أو يمكن البرء منه بعد زمن طويل لا يمكنها المقام معه إلا بضرر؛ كالجنون أو الجذام أو البرص، سواء كان ذلك العيب بالزوج قبل العقد ولم تعلم به أم حدث بعد العقد ولم ترض به، فإنْ تزوجته عالمةً بالعيب أو حدث العيب بعد العقد ورضيت به صراحة أو دلالة بعد علمها فلا يجوز التفريق] اهـ.
ونصَّت المادة رقم 11 من ذات القانون على أنه: [يُسْتَعَان بأهل الخبرة في العيوب التي يطلب فسخ الزواج من أجلها] اهـ.
وبناءً على ذلك: فإنَّ الأمراض النفسية تتفاوت في الشدة والضعف، وتختلف من شخص إلى آخر، ومنها ما يصعب التعايش معه لكونه يؤثر في مقصود الزواج أو يضرّ بالحقوق الزوجية، ومنها ما يمكن التعايش معه بلا إخلال بمقصود الزواج أو إضرار بها.
وفي واقعة السؤال: إن كان المذكور مريضًا بمرض نفسي؛ فإنَّه يتحتم عليه الرجوع إلى الطبيب المختص كي يحدد له حقيقة كون مرضه مؤثرًا فيلزمه إخبار الطرف الآخر به، أو غير مؤثر فلا يلزمه حينئذٍ إخباره.
والله سبحانه وتعالى أعلم.