الدكتور حسين ربيع يكتب: الأم عندما تتقن فن الرسم
الإثنين 21/مارس/2022 - 01:21 م
عشر دقائق تلخص معنى الأمومة وتعطي مثالاً حيًّا على قيمة وجود الأم في حياة
كل منّا، منذ سنتين أو يزيد، وفي طريقي من الهرم إلى جامعة القاهرة، استقللت ميني باص،
جاءت جلستي في مواجهة سيدة ريفية يبدو من هيئتها أنها قادمة من أحد الأقاليم القريبة
من القاهرة، في أواخر الثلاثين من عمرها، تحمل فوق رجلها صبيًا معاقًا قد يتجاوز الرابعة،
أثناء الطريق يتقلب بصر الصبي متفحصًا وجوه راكبي الميني باص تارة، وثانية يراقب فيها
يافتات المحلات المتراصة على جانبي الطريق، وتارة ثالثة ينظر في وجه أمّه، الأم منذ
أن ركبت وفي يدها حافظة بها أشعة وتحاليل أظن أنها تخصّ صبيّها، وربما كانت في طريقها
إلى إحدى المستشفيات الخيرية في الجيزة، المهم، ما لاحظته من مراقبتي للأم وولدهها،
أنها رغم علامات الشقاء التي تعرف مكانها جيدًا على وجه تلك الأم المسكينة، التي ابتلاها
الله بطفل لا يقوى على الحركة، وحكومة لا تقوى على الشعور بمثلها من البؤساء، هذه الأم
وفي حالتها هذه، كانت تحتضن صبيّها، بينما عيناها معلقتان بسقف الميني باص، لا أدري
أهى مناجاة لله أن يخفف عن ولدها، أم محاولة للهروب من واقع أليم إلى خيال ربما أقل
ألمًا، ما لفت انتباهي هو أنها لديها مهارة عجيبة في تغيير تعبيرات وجهها لتكسوه ابتسامة
مغلفة بمشاعر الحنان في اللحظة التي ينظر فيها ولدها إليها، ثم ما تلبث أن تعود لشرودها
لحظة أن يتحول بصر ولدها إلى شئ آخر بعيدًا عنها، عندما يتلاقى الوجهان، تكون الابتسامة
سيدة الموقف، هذا الأمر تكرر كثيرًا، وفي كل مرة أوقن أن الحنان هبة من الله منحها
للأم، وأن الأم هى الوحيدة التي تتقن فن رسم الابتسامة على وجه ولدها بينما تحتفظ لنفسها
بالوجع، وآمنت بأن قلب الأم لا يزال أروع ما خلق الله سبحانه وتعالى وأودعه في خلقه،
فتبارك الله أحسن الخالقين، وآمنت أيضًا بأن الأم قد لا تعطي أبناءها ما يريدون، لكنها
لن يبخل عليهم بما تملك، ولدها يريد الشفاء وأن يتحرك مثل من هم في سنه، والأم تريد
له ذلك أيضا، لكنها لا تملك سوى الابتسامة، حتى لو كانت مصطنعة، كانت في كل مرة تتلاقى
فيها نظراتها مع ولدها تعطيه كل ما تملك، بينما يتعلق بصرها بالسماء ترجو الله أن يعطي
ولدها ما يريد، دقائق كانت صعبة على نفسي وقلبي، انتهت الرحلة ولم تنتهِ دعواتي لتلك
الأم بأن يعوضها ربها خيرًا، وأن ينعم على ولدها بنعمة الشفاء...... إليها أقول بمناسبة
عيد الأم "كل سنة وأنتي أم، كل سنة وأنتي حنون، كل سنة وأنتي فنانة تتقنين فن
الرسم على طريقتك الخاصة".