الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس مجلس الإدارة
خالد جودة
رئيس مجلس الاداره
خالد جوده

بريد «هير نيوز».. قبل البداية

الثلاثاء 18/يناير/2022 - 07:07 م
هير نيوز

أرجو أن يتسع صدرك لما سوف أرويه لك وأطلب منك المشورة فيه فأنا فتاة في السابعة والعشرين من العمر.. وأواجه مشكلة لابد لكي تعرف جذورها أن أروي لك القصة من البداية.. أو على الأصح من قبل البداية وقبل أن آتي إلى الحياة، فلقد تزوجت أمي وهي في التاسعة عشرة من عمرها من شاب من أصل ريفي كان يعمل بمدينتنا، وسعدت أمي بزواجها منه بالرغم من صغر سنها.. غير أن سعادتها به لم تطل كثيرًا فلقد مضى عامان من الزواج بدون أن تنجب وراح أبي ينغص عليها حياتها ويحملها مسؤولية ذلك, ثم أذن الله لها بعد ذلك بالحمل وتوقعت هي أن تنتهي متاعبها بالحمل والولادة لكن الأقدار خيبت ظنها, فلقد وضعت حملها فإذا به أنثى, وأبي يريد لنفسه ولدًا يحمل اسمه ويخلد ذكره في الدنيا, كما قال لها ومن ثم فإنه لم يفرح بالمولودة الجديدة, وازداد إساءة لأمي وتنغيصًا لحياتها, وبعد عامين آخرين جئت أنا للحياة فكنت على حد قول أبي لأمي وقتها "المصيبة الثانية" التي ابتلى بها بعد مصيبته الأولى, وكثرت مشاجراته مع أمي ومعايرته لها بعدم إنجاب الولد وتجهمت الحياة في وجه أمي.. لكنها لم تيأس ـبالرغم من ذلكـ من تكرار المحاولة على أمل أن تحقق لزوجها أمله.. وتستقر حياتها معه بلا أكدار وحملت مرة ثالثة.. ووضعت حملها بعد عام ونصف العام من مولدي, فإذا به بنت ثالثة.. فكان ذلك هو نهاية القصة بالنسبة لأبي.. وما إن علم بنوع المولود الجديد حتى ترك أمي في المستشفى وحيدة وأرسل إليها, وهي مازالت في ضعف الولادة, بورقة الطلاق.. فبكت حتى جف دمعها كما روت لنا.. وخرجت من المستشفى إلى بيت أهلها تحمل رضيعتها علي ذراعيها.. ولم نجد نحن من يرعانا بعد ذلك سوى أخوالي وأهل أمي.. وبعد فترة ليست طويلة راح أخوالي يضغطون على أمي للزواج مرة أخرى لأنها مازالت صغيرة السن, وقبلت أمي تحت هذا الضغط بالزواج من قريب لها.. واقترنت به بالفعل وانتقلنا للحياة معها ومعه فلم تمض بضعة شهور حتى كانت قد حملت للمرة الرابعة, ووضعت حملها فإذا به يا سبحان الله ولدان توأم! بدلًا من ولد واحد.. وسعدت أمي بهذين الولدين كثيرًا واختلط مرحها بهما بالأسى على ما لقيته في حياتها السابقة من ظلم أبي لها واتهامه لها بعدم إنجاب الذكور, ومعاقبته لها على ذلك بالطلاق, ومضت الحياة بنا وتقدمنا في مراحل العمر, وكلما روت لنا أمي شيئا جديدا عما لاقته من أبي خلال زواجها الأول, ازداد كرهنا له, خاصة أنا, حتى لقد تمنيت ذات يوم لو استطعت أن أغير اسمي في كل أوراقي الرسمية لكيلا أحمل اسمه.. وبالرغم من عطف زوج أمي علينا ورعايته الأمينة لنا إلا أن ذلك لم يعوضنا أبدا عن ذلك الشيء الجوهري الذي فقدناه ونحن صغار, حين فقدنا الأب وافتقدنا وجوده في حياتنا ونهوضه بمسئوليته عنا, ومضت بنا الأيام وتقدم لأختي الكبرى شاب ناجح وتزوجته. وجاء الدور عليّ كما يقولون فرفضت الزواج نهائيا, لأنني قد كرهت الرجال في شخص أبي ولم أعد أتصور أن يضمني بيت واحد مع أحدهم.. ورحت أرفض الخطاب واحدا بعد الآخر دون أسباب واضحة, حتى اضطرت أمي بعد أن يئست مني إلى تزويج أختي الصغرى التي كانت تؤجل زواجها إلى ما بعد زواجي, ورحت أنا أبحث عن سبب لما فعله بنا أبي فلم أجد له عذرا من الناحية الدينية ولا من الناحية العلمية, فلقد قرأت للإمام الراحل الشيخ الشعراوي أنه في الوقت الذي كانت فيه الدنيا كلها تتهم النساء بأنهن مسئولات عن إنجاب الإناث دون الذكور جاء القرآن فأكد أن الله سبحانه وتعالى قد خلق الرجال والنساء من نطفة الرجل وأنه لا دخل للمرأة في ذلك, ثم جاء العلم الحديث فأكد أن تحديد النوع يأتي من جانب الرجل وليس المرأة.. فلم أجد بعد ذلك أي عذر لأبي فيما فعل بأمنا وبنا ورحت أدعو الله عليه في صلواتي ليلا ونهارا.. وآمل أن يصيبه دعائي حيث يكون لأننا لا نعلم أين هو ولا إذا كان حيا أم ميتا.. فهل أنا مخطئة في كراهيتي هذه لأبي.. وفي كراهيتي لجنس الرجال ورفضي للزواج.. إنني أرجوك أن تناشد كل الرجال ألا يظلموا زوجاتهم وبناتهم لكيلا يحكموا عليهن بالتعاسة والشقاء طوال العمر.

««ولكاتبة هذه الرسالة أقول»»
كان الفيلسوف البريطاني برتراند راسل يقول, أنه لكي تعيش سعيدًا في حياتك عليك أن تُحسن اختيار أجدادك, وبالرغم من السخرية الواضحة في هذه العبارة, فإن مدلولها العلمي صحيح وهو أن الكثير من سماتنا الجسدية والنفسية تحددها العوامل الوراثية التي تسجننا إلى حد كبير في سجن الجسد, الذي نولد به, وسجن الطبع الذي يتشكل من العوامل النفسية الوراثية والعوامل المكتسبة من بيئتنا العائلية وتجاربنا الشخصية ويبدو أننا مطالبون كذلك لكي نحيا حياتنا في سعادة أن نحسن أيضا اختيار آبائنا وأمهاتنا وأن نختار لأنفسنا طفولة سعيدة آمنة ترشحنا لمواجهة الحياة بتكوين نفسي سليم واستعداد طبيعي للسعادة.

ولأننا لا نستطيع للأسف اختيار أجدادنا وآبائنا وأمهاتنا وطفولتنا, فإن مسئولية الآباء والأمهات عن توفير هذه الطفولة السعيدة لأبنائهم تظل دائما هي خير ما يقدمونه لابنائهم من عطايا وخير ما يرشحونهم به للحياة السوية الآمنة في المستقبل.

وحالك خير مثال على ذلك يا آنستي, فأنتِ تدفعين الآن ثمنًا غاليًا بسوء تقدير أبيك وجهله بحقائق الحياة ونقوصه عن الرضا بأقداره وتقاعسه عن تحمل مسؤوليته الإنسانية عن بناته, ولقد تفتحت مداركك للحياة وأنتِ تنطوين في أعماقك على أسوأ ما ينطوي عليه طفل في طفولته وهو إحساسه الباطني بأنه عبء ثقيل على الحياة وأحد أسباب شقاء أمه أو أبيه بحياته بدلًا من أن يشب وبداخله الإحساس السليم بأنه هبة الأقدار الغالية لأبويه, وموضع الإعزاز والحب الغامر من كليهما.

ولقد كان من الممكن أن ينحسر أثر هذا الإحساس المؤلم عليكِ إلى أقصى حد ممكن لو لم تكن والدتك قد أسرفت في تنبيه هذا الإحساس لديكِ ولدى أختيك, والإسراف في رواية ذكريات مأساتها الشخصية مع أبيكن, وتعميق إحساسكن بأثر النوع على تحطم حياتها الزوجية الأولى, والتركيز على عمق الجرح الذي خلفه هذا الأب الجاحد في حياتها وحياة بناتها, إذ تفاعلت كل هذه المؤثرات مع إحساسك المؤلم بافتقاد الأب الراعي المسئول عن بناته في حياتك وفقدان التعبير وأثرت على تشكيل نظرتك السلبية للرجال والزواج, وتحول الرجل في أعماقك إلى رمز لقهر الأنثى وإيلامها والتخلي عنها ورغبت في عقلك الباطن في تجنب التعرض لهذا القهر الذي لمست أثره المؤلم على حياة والدتك وحياتك وحياة أختيك فنفرت من جنس الرجال وأصبح الزواج لديك قرينا لتعرض الأنثى للإيذاء المعنوي والقهر والشقاء.

ولقد علمتنا تجربة الحياة أن الأبناء حين يكونون شهداء على التعاسة الزوجية لأبويهم, فإنهم يتفاعلون مع ما يشهدون عليه من شقاء سلبا وإيجابا فيورثهم في بعض الأحيان مثل هذا الأثر السلبي, الذي يعجزون معه عن التفاعل السليم مع مؤثرات الحياة أو يورثهم في أحيان أخرى الرغبة الحارة في السعادة الشخصية في حياتهم الخاصة والتمسك بما حرموا منه في طفولتهم وصباهم من أسبابها والحرص على أن يجنبوا أبنائهم مرارة التعاسة والخوف من المستقبل التي تجرعوها هم في حياتهم.

ولقد اختارت لكِ الأقدار هذا الأثر السلبي دون الآثار الأخرى وتعمق لديكِ الإحساس بالخوف من أن تتعرضي في المستقبل لقهر الرجل الذي تعرضت له أمك في الماضي مع أن تجربتها الثانية في الزواج قد نجحت وحققت لها ولكن الأمان والاستقرار, فلماذا ثبتت عيناك على تجربتها الأولى مع أبيك وحده؟ ولماذا لم تجد تجربتها الثانية في الوفاق الزوجي ما ينبغي أن يكون لها من أثر إيجابي على رؤيتك للرجل والزواج؟ ولماذا أيضا لا تأملين في تكرار تجربتي شقيقتيك في الزواج السعيد والتعامل مع صنف آخر من الرجال؟

إن الأمر على أية حال لم يخرج بعد عن نطاق السيطرة ومن الممكن دائما أن يعدل الإنسان من أفكاره الخاطئة في أي مرحلة من العمر بمراجعة هذه الأفكار واختبار منطقيتها وبالحوار الهادئ العقلاني مع النفس.

فإذا سلمت بينك وبين نفسك, بأنه لا ذنب لأحد في ضيق أفق والدك ولا في تخليه عن مسئولية بناته, وأدركت أن البشر جميعا ليسوا أشباه متماثلين في أفكارهم ورؤيتهم للحياة, واسترجعت ما قاله الأديب والشاعر الألماني جوته من أنه يندر أن تجد بين أوراق الشجر ورقتين متماثلتين تمام التماثل, ويندر أيضا أن تجد بين البشر اثنين تتفق آراؤهما وأساليب تكفيرهما تمام الاتفاق, إذن لأدركت أنه لا يمكن أبدا تعميم حكم سليم على كل الرجال أو كل النساء اعتمادا على تجربتنا الشخصية مع واحد منهم أو واحدة منهن, أو حتى مع بعض هؤلاء.

فضعي الأمور في نصابها الصحيح, وتخلصي من خوفك المرضي من الرجال والزواج ولو تطلب ذلك الاستعانة بخبرة الطبيب النفسي, وتعاملي مع الحياة بالإيمان الصحيح, بالرغم مما يزعجنا من بعض مظاهر الشر فيها, ولسوف ترشحين نفسك بذلك للتفاعل الإيجابي معها ولخوض تجربتك الشخصية فيها والابتهاج بها.

ads