سلوى الأنصاري تكتب.. الشتاء.. فصل المشاعر ومحفل الشعر
الإثنين 06/ديسمبر/2021 - 10:49 ص
بقلم سلوى الأنصاري
ما بين أصول الطقوس وفصول الطبيعة يأتي الشتاء حاملًا معه الأنين والحنين وكل الذكريات في قالب البشر موشحاً بنهارات قصيرة تحمل أمنيات "الدفء " ومساءات مستديرة تمتلئ بساعات "المكوث "في قلب الزمن. ووسط تناغم متوائم بين كيميائية الشعور وسميفونية الشعر تتهادى الأحاديث والعبارات والمواقف والذكريات منطلقة من منصات "المشاعر " مرغمة ساعات الزمن على التقيد بحركة "الأدب " وملزمة مسارات "الوقت " أن تلتزم بمواعيد "الثقافة " لتشكل مشاهد الأحتفال ما بين مناسبات "الابداع " ومنطلقات "التعبير .
وسط الشتاء ترتدي الأرض ثوبًا جميلًا أبيضًا ؛فتزهر كعروس فاتنه تبهر كل من نظر وتأسر كل من حضر . وبحلوله نرى الطيور المهاجرة تهاجر أعشاشها وأوطانها باحثة عن احضان الدفء.
يأتي الشتاء ليقف بين الأرض وحرارة الكون، ودفئ السماء، حاملا معه المطر والضباب والسحاب،مسدلًا وشاحه الأبيض على البسيطة، و يجتمع فيه الأصحاب والأحباب في مساءآته العامرة بالامتداد . .
يحل الشتاء قويًا آسرًا كجلمود صخرٍ حطه السيل من عل فيفتق الزهر الندي بين أصابع الشعراء والأدباء.
ليهيموا في لياليه الطويلة بين أحرف الكلم وأنغام القلم .
في زمن الشعراء القدماء منهم من تغنى بفصل الشتاء فورث لنا قصائدًا غناء .
يقول امرؤ القيس: " قِفَا نَبْكِ مِنْ ذِكْرَى حَبِيبٍ ومَنْزِلِ، بِسِقْطِ اللِّوَى بَيْنَ الدَّخُولِ فَحَوْمَلِ"
أصَاحِ تَرَى بَرْقاً أُرِيْكَ وَمِيْضَـهُ كَلَمْـعِ اليَدَيْنِ فِي حَبِيٍّ مُكَلَّـلِ
يُضِيءُ سَنَاهُ أَوْ مَصَابِيْحُ رَاهِـبٍ أَمَالَ السَّلِيْـطَ بِالذُّبَالِ المُفَتَّـلِ
ويقول أبو تمام:
لولا الذي غرس الشتاء بكفه
لاقى المصيف هشائما لا تثمر
مطر يذوب الصحو منه وبعده
صحو يكاد من الغضارة يمطر
وامتد زمن الشعراء وتغنيهم بالشتاء إلى عصرنا الحديث فهام به الأدباء ، وخلدوا لنا قصائد عصماء جميله بلا استثناء.
فنجد شاعر العصر الحديث نزار قباني وقد وصف نفسه بفصل الشتاء وكأن لأجواء الشتاء تأثيرًا كبيرًا على قصيدته ((لا وسيلة للتدفئة سوى حبك ))
فأنشد عاليًا و ترنم قائلاً :وأنا أيضاً أريدُ أنْ أكونَ في عِشقي شتائياً، وانقلابياً، وعاصفاً
لا يقلقني الثلجُ، ولا يُزعجني حِصارُ الصقيعِ
فأنا أقاومُه؛ حيناً بالشِعر، وحيناً بالحبِّ
فليسَ عندي وسيلةٌ أخرى للتدفئة، سوى أنْ أحبّك
خوفاً من عزلة الشتاء حلق الشاعر صلاح عبد الصبور في الكون الوسيع قائلا:
ينبئني شتاءُ هذا العامِ أنَّ داخلي مرتجفٌ بردا
وأنَّ قلبي ميتٌ منذ الخريف، قد ذوى حين ذوتْ، أولُ أوراقِ الشجر
ثم هوى حين هوتْ، أولُ قطرةٍ مِن المطر
و أنَّ كلَّ ليلةٍ باردةٍ تزيدهُ بُعدا، في باطن الحجر
و كذلك اخذتنا نازك الملائكة بعيدًا في وصف فريد للمطر في قصيدة عنوانها «على وقع المطر»قائلة:
«أمطري لا ترحمي طيفي في عمق الظلام
أمطري صبي علي السيل يا روح الغمام
لا تبالي أن تعيديني على الأرض حطام
وأحيليني إذا شئت جليداً أو رخام
سيضل للشتاء مكانه الخاصة إذ أنه مصدر الإلهام ومشاعرنا عند حلوله ترنوا نحو الغمام و أوراقنا تعانق الأقلام و لوحاتنا تدعوا إلى السلام فلا انهزام ولا انتقام ولا استسلام
استمر الشعراء عن الحديث والتغني بالشتاء كلاً يرى الشتاء من زاويته الخاصه
يقول شاعر تونس الخضراء أبو القاسم الشابي - رحمه الله :
سَأَلْتُ الدُّجَى: هَلْ تُعِيدُ الْحَيَاةُ لِمَا أَذْبَلَتْهُ رَبِيعَ العُمُر؟
فَلَمْ تَتَكَلَّمْ شِفَاهُ الظَّلامِ وَلَمْ تَتَرَنَّمْ عَذَارَى السَّحَر
وَقَالَ لِيَ الْغَابُ في رِقَّةٍ مُحَبَّبَةٍ مِثْلَ خَفْقِ الْوَتَر
يَجِيءُ الشِّتَاءُ، شِتَاءُ الضَّبَابِ شِتَاءُ الثُّلُوجِ، شِتَاءُ الْمَطَر
فَيَنْطَفِىء السِّحْرُ، سِحْرُ الغُصُونِ وَسِحْرُ الزُّهُورِ وَسِحْرُ الثَّمَر
وَسِحْرُ الْمَسَاءِ الشَّجِيِّ الوَدِيعِ وَسِحْرُ الْمُرُوجِ الشَّهِيّ العَطِر .
وحينما يأتي الشتاء يزورنا أنين البرد وحنين الشوق، وتطفوا الذكريات على سطح من جليد
انه الشتاء فصل المشاعر ومحفل الشعر ..وموسم الأنبثاق الجلي لمراسم الكلمات والأبيات والعبارات والانعتاق من جمود الأزمنة الى وعود الأمتاع التي تلوح في الأفاق بمعاني الفنون الأدبية والمتون الثقافية.