بقلم فاطمة المتحمي: الدخيل والمتنبي.. الشعر بلغة العصر 3/1
في زمن تتسارع فيه الصور وتغرق الكلمات في ضجيج الشاشات، يبدو أن الشعر أضاع موضعه الأصيل؛ ذلك العرش الهادئ في القلب العربي الذي ما كان لغيره أن يمسك زمامه. لكن في زاوية هادئة من فضاء x (تويتر سابقاً)، قرر الإعلامي والكاتب تركي الدخيل أن يعيد إلى الشعر هيبته الأولى، ويذكرنا أن اللغة مهما تغير شكلها تظل مأوى الإنسان العربي الأبدي.
هناك، في سلسلة تغريداته التي يبدأها بعبارة باتت مألوفة لمتابعيه: «من روائع أبي الطيب»، يستحضر الدخيل المتنبي لا بوصفه شاعراً من القرن الرابع الهجري، بل بوصفه ضيفاً معاصراً يعيش بيننا، يسير في أروقة وعينا المرهق، ويعيد إلينا وهج المعنى المفقود. هذه السلسلة التي تجاوزت ستين تغريدة ليست عمل عابر، بل مشروع فكري متماسك يقوم على قراءة جديدة للتراث العربي في ضوء الحاضر الرقمي.
تركي الدخيل هنا لا يشرح الأبيات كما يفعل الشراح القدامى، بل يحاورها كما يحاور صديقاً قديماً. هو قارئ يوقظ النص من سباته، يفتح له نافذة على العالم الحديث، ثم يتركه يتنفس من جديد.
يقول تركي في أحد لقاءاته الصحفية: «أنا مريض بـ المتنبي.. وأرفض العلاج».
جملة تختصر علاقة وجودية بين القارئ ونصه. فـ«المرض» هنا ليس ضعفاً، بل شغفاً يسكن الجسد والعقل معاً.
إنه انتماء إلى المتنبي لا بوصفه شاعراً فقط، بل رمزاً للكبرياء، ومرآة للذات العربية وهي تتأمل جراحها وعزتها في آن واحد. حين يقول الدخيل ذلك، فهو يعلن أن المتنبي ليس «موروثاً» يدرس، بل كائن حي يسكن اللغة ويمنحها معنى الحياة.
كان المتنبي، منذ قرون، أكثر من شاعر؛ ظاهرة فكرية تتجاوز الشعر إلى الفلسفة والرؤية. وها هو تركي الدخيل يعيد إحياء هذه الظاهرة في القرن الحادي والعشرين، ولكن بأداة جديدة: «التغريدة».
البيت الذي ولد في حضرة سيف الدولة، اليوم يولد من جديد في فضاء رقمي، أمام جمهور لم يعرف البصرة ولا حلب، لكنه لا يزال يبحث عن ذاته في اللغة.
في إحدى تغريداته الأولى، نشر الدخيل بيت المتنبي الشهير:
«لولا المشقة سادَ الناس كلهم،
الجود يفقر، والإقدام قتال».
ثم علق قائلاً: «التميز لا يولد من الراحة، بل من مشقة تليق بالعظماء.» بهذا التفسير الوجيز، جعل الدخيل البيت القديم يعيش في مناخ جديد.
فالبيت الذي كان في أصله وصفاً لطبيعة المجد في زمن السيوف، أصبح عند الدخيل فلسفة عمل وإنجاز في زمن التكنولوجيا. لقد أخرج المعنى من قوقعته التاريخية، وجعله صالحاً للإنسان المعاصر الذي يكدح في سبيل ذاته، ويحلم بأن يصمد رغم التعب.
منهج تركي هنا لا يقوم على التفسير الأكاديمي، بل على تفعيل النص داخل الوعي الحديث. فهو لا يكتفي بالشرح، بل يحاول إعادة خلق المعنى في بيئة تختلف جذرياً عن بيئة المتنبي الأولى. إنه نوع من الترجمة الداخلية، ترجمة بين زمنين وثقافتين حيث يترجم الدخيل روح المتنبي إلى لغة الإنسان الرقمي.
ولعل هذا ما يفسر تفاعل المتابعين الكبير مع تغريداته؛ فهم لا يقرؤونها بوصفها درساً أدبياً، بل تجربة وجدانية تمسهم في صميمهم. كل بيت يتحول إلى مرآة للذات، وكل تغريدة عن المتنبي من الدخيل تتحول إلى حكمة يومية. لقد نجح في أن يجعل المتنبي جزءاً من الحياة اليومية لمئات الآلاف، بعد أن كان حكراً للمثقفين والمهتمين بالأدب والشعر العربي.
في تغريدة أخرى نشر بيتاً من أكثر أبيات المتنبي تداولاً:
«وإذا كانت النفوس كبارًا،
تعبَت في مرادها الأجسام».
ثم علق بـ: «العظمة لا تمنح، بل تؤخذ بالتعب». هذه الجملة رغم بساطتها تكشف جوهر قراءة الدخيل للشعر: إنها قراءة تبقي على جوهر البيت، لكنها تنزله إلى أرض الحياة اليومية. فهو يرى أن الشعر ليس قطعة في متحف، بل طاقة تحرض على الحياة. وأن الكلمة القديمة لا تفقد قيمتها إذا أعيد توجيهها نحو المعنى الإنساني الأوسع.
في هذا النوع من القراءة، يتحول المتنبي إلى «معلم أخلاقي» لا مجرد شاعر. يتحدث عن الصبر كما لو أنه يعيش في زمننا، وعن الطموح كما لو أنه يكتب في مقهى من مقاهي المدن الحديثة.
لقد أعاد تركي الدخيل إلى الشعر العربي واحدة من أهم وظائفه القديمة: الوظيفة التربوية والمعرفية، لكن بوسيلة حديثة وبنفس شخصي هادئ.
وحين نقرأ تغريداته، نكتشف أن مشروعه لا يقف عند حدود الإعجاب بالمتنبي، بل يتجاوزه إلى إعادة تعريف «الذائقة العربية». ففي زمن تهيمن فيه الخطابات السطحية، يقدم الدخيل نموذجاً مغايراً: تغريدة من بيت شعري تعيد الناس إلى التأمل. وهذا وحده موقف ثقافي جريء.
لقد جعل من المنصة التي ولدت للسرعة مكاناً للتباطؤ، ومن المساحة التي خلقت للضجيج فضاءً للإنصات. يبدو الدخيل في مشروعه هذا كمن يحاول المصالحة بين الحداثة والتراث الشعري. فهو ابن للزمن الرقمي، لكنه وريث اللغة الكلاسيكية التي نشأ عليها الوعي العربي.
لهذا تأتي قراءاته للمتنبي بين سطرين: سطر يحمل مجد الماضي، وسطر ينطق بقلق الحاضر. بينهما تتشكل تجربة فريدة في فهم الذات العربية من جديد.
في تغريدة ثالثة كتب المتنبي يقول:
«على قدر أهل العزم تأتي العزائم،
وتأتي على قدر الكرام المكارم.»
ليعلق الدخيل قائلاً: «الهمة ترفع المقام، والعزيمة تخلق المدى.» هنا نلمس البعد الفلسفي في اختياراته. فهو يختار الأبيات التي تلخص رؤية الإنسان لذاته ومصيره. كأنما يقرأ المتنبي باعتباره مفكراً لا شاعراً.
وفي هذا الوعي، يلتقي تركي مع سلسلة طويلة من المفكرين العرب الذين رأوا في أبي الطيب تجسيدًا لـ «الإنسان الفاعل» في مقابل «الإنسان المنفعل». لكن الفارق أن الدخيل يقدم هذا الوعي بلغة تصل إلى جمهور واسع عبر منصة يومية، لا عبر كتب نخبوية.
تغريداته ليست ترفاً لغوياً، بل هي مشروع ثقافي لإعادة بناء العلاقة بين القارئ والتراث الشعري. فهو يذكرنا أن الشعر في أصله خطاب للروح، وأن المتنبي ليس ذكرى لغوية، بل منظومة فكرية لا تزال قادرة على تفسيرنا.
وفي إحدى اللحظات الوجدانية كتب الدخيل:
«وما الخيل إلا كالصديق قليلة،
وإنْ كثرَت في عين مَن لا يجَرب.»
وأضاف تعليق: «القيمة ليست في العدد، بل في الصدق». في هذا البيت، يلتقي المتنبي الذي عاش وسط أمراء وسيوف، بإنسان القرن الحادي والعشرين الذي يعيش وسط الأصدقاء الافتراضيين. إنه لقاء رمزي بين عالمين: الأول يؤمن بالوفاء كقيمة نادرة، والثاني يعاني من فقدان المعنى في بحر العلاقات العابرة. بهذه الطريقة، يمارس تركي الدخيل نقداً ثقافياً غير مباشر للواقع المعاصر، من خلال مرآة الشعر الكلاسيكي.
استطاع الدخيل أن يثبت أن المنصات الحديثة مهما كانت سطحية في ظاهرها يمكن أن تتحول إلى أداة للارتقاء بالوعي إذا ما أحسن استخدامها. فهو لم يغير المتنبي ليواكب العصر، بل غير زاوية النظر إليه، فصار المتنبي نفسه معاصراً دون أن يتنازل عن لغته أو مقامه. وحين نقرأ تغريداته مجتمعة، نكتشف أن هناك بنية فكرية خلف الاختيار: فهو يختار الأبيات التي تتحدث عن العزم، والكبرياء، والصدق، والوفاء، والشجاعة. كأنها خمس قيم كبرى يريد أن يبني بها إنسان اليوم.
بهذا يصبح مشروعه «تغريداً معرفياً» أكثر منه احتفاء أدبياً. إننا في مواجهة تجربة تعيد تعريف مفهوم القراءة ذاتها. فالقارئ اليوم لا يحتاج إلى مجلدات ليتصل بتراثه، بل إلى تغريدة صادقة تذكره بما نسيه. وهنا تكمن عبقرية المشروع: أنه يعيد وصل ما انقطع بين العربي ولغته، ويجعل من بيت المتنبي جسراً بين الحبر والشاشة، بين الماضي والمستقبل، بين الحكمة والسرعة.
لكن كيف حول تركي الدخيل التغريدة إلى مدرسة في الذائقة العربية؟ هذا ما سأحاول تناوله لاحقاً.