بقلم ميسون الدخيل: آن فرانك وشعار المنافقين
في سجلات التاريخ، تقف بعض المآسي بمثابة تذكير صارخ بالأهوال التي يمكن للإنسانية أن تلحقها بنفسها. قصة «آن فرانك»، التي روتها في صفحات مذكراتها، هي بمثابة رمز مؤثر للبراءة المفقودة وسط فوضى الحرب والاضطهاد. ومع ذلك، مع تقدم العالم في القرن الحادي والعشرين، تتردد أصداء محنة «آن» في حياة عدد لا يحصى من الأطفال الآخرين كلازمة مؤلمة من المعاناة والخسائر. وشهد العالم مؤخرًا مثالًا حيًا، وليس من خلال مذكرات، مأساة أطفال شعب تحت القصف! واليوم وفي سجلات التاريخ تم تسجيل اللحظات الرهيبة للطفلة هند رجب، والتي أصبحت أيقونة كل الأطفال الذين تم قتلهم بدماء باردة في غزة.
تردد صدى أحد هذه الأصداء المفجعة مؤخرًا في الأراضي الفلسطينية؛ التي مزقها وشرد أهلها الاحتلال الصهيوني، حيث اصطدمت براءة الطفولة بوحشية الحرب! في موازاة محنة «آن فرانك»، وجدت فتاة صغيرة، والتي بات اسمها معروفًا على نطاق واسع، نفسها متورطة في دوامة من العنف والكراهية التي لم تودي بحياتها فحسب، بل أيضًا بحياة أفراد عائلتها، إنها هند رجب.
وتكشف الحادث بشكل مأساوي عندما أطلقت وحدات الدبابات التابعة للمحتل الصهيوني، والتي كانت تتقدم دون أي اعتبار لحياة المدنيين الهاربين من أهوال الحرب، وابلًا من النيران العشوائية على سيارة تقل الأسرة البريئة. ووسط الفوضى والمذابح القائمة، اخترق صوت الفتاة الصغيرة نشاز الدمار وهي تتوسل المساعدة من والدتها، بعد أن تعرضت السيارة التي كانت تقلها للفرار من العنف في غزة مع أقاربها - عمتها وعمها وأبنائهما الأربعة - لوابل من الرصاص حيث قتل جميع من كان معها وبقيت هي الناجية الوحيدة بين جثث أقاربها المدرجة بالدماء! صرخة يائسة للخلاص في مواجهة الهلاك الوشيك، تذكرنا بشوق «آن فرانك» للتحرر من حدود ملحقها الخفي؛ بضع ساعات مقابل بضعة أيام.
ومع ذلك، شاء القدر أن تصبح سيارة الهلال الأحمر التي وصلت لتقديم المساعدة هدفًا في حد ذاتها، حيث وقعت تحت نيران عدو لا يرحم. وغطت أصوات الرصاص المتصاعدة في الهواء على صرخات الفتاة، لتختم مصيرها المأساوي مع من سعوا لإنقاذها! في النهاية، ابتلع الظلام نفسه الذي خيم على أيام «آن فرانك» الأخيرة.
سرعان ما انتشر صوت هند وقصتها في جميع أنحاء العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، لقد كان التسجيل الهاتفي توثيقًا للحظات الأخيرة لها ولعائلتها. مكالمة هند ذات الثلاث ساعات مقابل 280 صفحة لــ «آن فرانك»؛ الأولى لم تحرك أحدًا في حينها لكن الثانية رجت الضمير العالمي، بل ضمير الشباب العالمي، لأنه سمع وتحرك.
إن أوجه التشابه بين قصة «آن فرانك» والمحنة المروعة التي تعرضت لها هند رجب ذات الست سنوات، مذهلة ومثيرة للقلق. فكلتا الروايتين تعملان بمثابة تذكير صارخ بالتكلفة البشرية للحرب وأعماق القسوة التي لا يمكن فهمها والتي يمكن أن تنشأ من الكراهية والتعصب الجامح والطمع والاستيلاء على ثروات وأراضي الغير، وهي تذكرنا أيضًا أن خلف الإحصائيات والمناورات الجيوسياسية توجد حياة حقيقية، وأسر حقيقية، وأطفال حقيقيون يتم القضاء على مستقبلهم في لحظة واحدة بواسطة آلية الصراع التي لا ترحم.
علاوة على ذلك، فإنها تجبرنا على مواجهة الحقيقة المزعجة التي مفادها أنه على الرغم من مرور الوقت والتقدم المفترض للحضارة، فإن شبح العنف والاضطهاد الذي لا معنى له لا يزال يلوح في الأفق فوق عالمنا. ويبدو أن دروس التاريخ يمكن نسيانها أو تجاهلها بسهولة في خضم السعي الدؤوب إلى السلطة والهيمنة!
ومع ذلك، حتى في مواجهة هذا الظلام، لا يزال هناك بصيص من الأمل. تظل مذكرات «آن فرانك» بمثابة شهادة على مرونة الروح الإنسانية وقوة الأمل في الانتصار على اليأس. وعلى نحو مماثل، كان المصير المأساوي للطفلة الصغيرة هند رجب بمثابة دعوة للتحرك، وتذكير بأننا لا ينبغي لنا أبدًا أن نتهاون في مواجهة الظلم والمعاناة.
وبينما نتأمل هذه المآسي الموازية، دعونا لا نحزن على الأرواح التي فقدت فحسب بل نغضب ونقف يدًا واحدة أمام هذه الهمجية التي لا ترى لونًا سوى لونها ولا إنسانًا سوى من جنسها ولا ضميرًا يتحرك سوى لمن هو على شاكلتها! بل علينا أن نؤكد من جديد أيضًا التزامنا ببناء عالم تصبح فيه هذه الفظائع جزءًا من الماضي، ليس بالصمت وليس بالمشاهدة وكأن ما يحدث لا يمسنا ولا يعنينا، دعونا نسعى جاهدين لتكريم ذكرى هند رجب، كما سعوا هم لتخليد ذكرى «آن فرانك»، بل أن نسعى لتخليد ذكرى كل من سقط من أطفال غزة من خلال العمل بلا كلل لضمان عدم نسيان قصصهم وألا تذهب معاناتهم سدى، وعندها فقط يمكننا أن نأمل حقًا في كسر دائرة العنف، وإعادة الحق المسلوب، وخلق مستقبل يستطيع فيه كل طفل فلسطيني أن ينمو في سلام وأمن، بعيدًا عن ظلال الحرب والاضطهاد.
لو كانت «آن فرانك» بيننا اليوم لم تكن لتقبل بما يحدث باسمها، كانت ستردد مع كل اليهود ممن اكتشف حقيقة السردية السامة التي تم زرعها في وجدانهم على مدى عقود، ويقفون اليوم كتفًا بكتف ويدًا بيد مع شباب وطلاب الجامعات الأمريكية، يتعرضون معهم للملاحقات والتعديات بل والمخاطرة بمستقبلهم المهني والوظيفي، مرددين بصوت عالٍ «ليس باسمنا»! كما أنهم يؤكدون على أن مبادرة «لن يحدث مرة أخرى أبدًا» يجب أن تنطبق على الجميع، من أجل الجميع، في كل مكان، وفي كل الأوقات. وإلا فهو مجرد شعار لا معنى له يتداوله المنافقون.