الجمعة 22 نوفمبر 2024 الموافق 20 جمادى الأولى 1446
رئيس مجلس الإدارة
خالد جودة
رئيس مجلس الاداره
خالد جوده

بقلم ملحة عبدالله: لماذا السيرة تصبح سيرتنا؟

الجمعة 10/مايو/2024 - 04:20 م
هير نيوز

لاستلهام التراث ثلات نظرات: النظرة التقديسية التي تتعامل مع التراث كالنصوص المقدسة التي لا يصح فيها التحريف، والنظرة التغريبية أو الليبرالية للتراث وفيها مغالاة لإنكار التراث والتحرر منه، والنظرة التوفيقية بين الماضي والحاضر أو بين الأصالة والمعاصرة وهي التي تستلهم التراث وتصنع منه جسوراً للحاضر أو للواقع لتحقق ما يسمى بالتجاوب كمصطلح (جولدماني) وهي الأقرب للفكر العربي..

عندما نتحدث عن استلهام التراث في الأعمال الفنية، وعندما نجسدها في نصوصنا الأدبية، وعندما نعرضها على خشبات المسارح أو حتى نلون بها فنوننا التشكيلية، فهذا يعني أننا نحتاج إلى تقديم رؤية فنية جديدة، نعالج بها الواقع وتتلامس معه، وليس مجرد نقل لهذه الأدبيات العتيقة وسردها. ولذلك يتساءل سائل عندما يرى عملا أدبيا مستلهما: لما لم يقدم كما هو؟ ولماذا أضاف أو حذف؟ وهو لا يعلم أن لاستلهام التراث قواعد وشروطا وهي الإبقاء على الأعمدة الرئيسة للمعطى التراثي، وثانيا تقديمه برؤية فنية يتبناها المبدع ليصب في وعائها تلك الرؤية بدون إخلال بمرتكزاتها الفنية الأصل لكيلا يحدث خللا في البنية الموروثة. بالرغم من أن هناك ثلات نظرات لاستلهام التراث: أولاً النظرة التقديسية التي تتعامل مع التراث كالنصوص المقدسة التي لا يصح فيها التحريف.. وثانيا النظرة التغريبية أو الليبرالية للتراث وفيها مغالاة لإنكار التراث والتحرر منه.. وثالثا النظرة التوفيقية بين الماضي والحاضر أو بين الأصالة والمعاصرة وهي التي تستلهم التراث وتصنع منه جسورا للحاضر أو للواقع لتحقق ما يسمى بالتجاوب كمصطلح (جولدماني) وهي الأقرب للفكر العربي.

وفي هذا المقام نتحدث عن السيرة الهلالية على سبيل المثال، والتي عالجها الكثير من المبدعين وهي تتناول سيرة بني هلال في القرن الثالث الهجري حيث حدث القحط في الجزيرة العربية وتنقلوا للبحث عن الأراضي الخصبة، فسافر أبو زيد مع ثلاثة من أبناء أخته شيحة للبحث عن الخصب فوجدوا ضالتهم في تونس ثم قاموا بإبلاغ بني هلال بالرحيل إلى تونس فاصطدموا بحاكمها الزناتي خليفة وحاصروها لمدة من الزمن حتى استطاعوا دخولها بالخديعة عن طريق سعدى بنت الزناتي التي وقعت في غرام مرعي الهلالي.. هذه هي الأعمدة الرئيسة للسيرة المتمثلة في (1- القحط أو المجاعة، 2- الرحلة أو التغريبة، 3-استخدام العاطفة بعد فشل الحصار، 4- نجاح مرامهم) وهو ما يتوجب الحفاظ عليها كقاعدة من قواعد استلهام التراث.

وباستلهام سيرة بني هلال في مسرحية (السيرة سيرتنا) على مسرح البالون بالقاهرة نجدها تشحذ كثيرا من التساؤلات وبطبيعة الحال تكمن الإجابة في الرؤية الفنية.

فعندما تجد الشخصيات تتحدث بلسان عربي متنوع اللهجات ويصبح الحوار مفهوما رغم تنوع مصادر الكلام.. وعندما تتنوع الأزمنة والأمكنة في مكان واحد وزمن واحد فلا يوجد زمان او مكان، وحينما تتمتع عيناك بروية كل المترادفات والمتناقضات في صورة واحدة تكتمل عناصرها، وعندما تتداخل الأزمنة وتتشابه الملابس والإكسسوارات فلا تميز بين العصور المختلفة، وعندما تتداخل الموسيقى وتتنوع بين أغاني الأوبرا والأوبريت والأوبريتا -وهي قوالب فنية- وتتداخل الأنسجة اللحنية (المونوفوني، والهوموفوني، والبولوفوني) كل ذلك في هارموني مع الغناء الشعبي، غناء النشاذ، وأغاني المهرجانات. عندما يتراقص الجميع بين رقص شعبي، باليه كلاسيكي، رقص تعبيري، وإيقاعي وشرقي، تشعر أنك في تداخل ممنهج وسيال يخضع للواقع الحياتي المعيش، ويضعه تحت عدسة (ميكروسكوب) بل تصبح أنت نفسك داخل هذه الشريحة (الميكروسكوبية) تتعرض للفحص بالأشعة.

هذا ما يحدث عندما تجد نفسك تشارك في الفرجة الشعبية داخل قاعة صلاح جاهين والتي أحاطت بك من كل ناحية، لتتلفت يمينا ويسارا لتتابع الشخوص تتحرك أمامك وهى تنقلك عبر حركة سريعة من الحجاز إلى ليبيا إلى تونس في رحلة الهلالية التي استمرت سنوات، لتقدم لك السيرة في خلال ساعة من الزمن تنوعت فيها أشكال الحكي الشعبي من الربابة إلى الحكي بالرقص او الحكي بالسرد (الراوي) والحكي بالأغاني، وبين فنون التشخيص وخيال الظل والتمثيل.

لقد ابتكر مصمم الديكور محمد خبازة معادلا مرئيا لحالة التشتت والتشرذم العربي من خلال وحدة مسيطرة على المشاهد من ثلاث جهات روية، ليكمل المشاهد الضلع الرابع وهو بداخله مشكلا النجمة العربية الملونة على الأقواس العشرة التي تغطي حوائط القاعة وتحدد أماكنها التي تختلف بين البيئة الحجازية او البدوية مع بني هلال والمغربية كما في الشعراء، والأندلسية عند مخدع سعدى، حيث الأريكة والستائر الناعمة، او الرمزية كما في عرش الزناتي الذى سيطر عليه اللون الأحمر رغم عدم استقراره او ركوزه ورغم انه يرزح تحت عمامة كبيرة تسيطر على راس الجالس على الكرسي المثقوب غير المستقر.

إن الدلالات التي صاغها مهندس الديكور في كل مكان تجمعها كلها داخل إطار واحد وهي الأعمدة المقوسة المشهورة بالنجمة العربية وبمشاعل الحضارة التي تنبعث منها، كذلك مصممة الأزياء التي تنقلت بين العصور المختلفة في الملابس شبه التاريخية او العصرية او الاستعراضية، فالمظهر الخارجي الذى يجمعنا مختلف دون تنافر لأن الدواخل متشابهة.

أما التمثيل فنجده يتنوع بين التجسيد والتشخيص، او بين التمثيل الداخلي والخارجي ومدارس إخراجية تنقلك بين (برتولت بريخت) و(استانسلافسكي) و(جروتوفسكي) بل و(ماير خولد) في سيمفونية رائعة صاغها الكاتب محمد الشاعر وقدم السيرة الهلالية ذات المجلدات الثمانية في ساعة واحدة، ولا يريد ان يذكرنا بالسيرة الهلالية إلا لينقل لنا الواقع المعيش من خلال أغنية الدواعش.. ولذا جاءت الرؤية عبر تشكل الفضاء المسرحي سيمفونية رائعة من إخراج المخرج أشرف عزب.

وجاء في التمثيل سيد جبر في دور الزناتي خليفة، أحمد أبو عميرة في دور دياب بن غانم، إيمان رجائي في دور سعدى بنت الزناتي، وائل إبراهيم في دور العلام، أحمد الشريف في دور السلطان، حسن محمد الشربيني في دور الهصيص، علاء أبو زيد في دور أبو زيد الهلالي، محمد عمر في دور مرعي الهلالي، دعاء الخولي في دور مي الهلالية، أحمد مصطفى في دور شعلان، رولا مجدي في دور الجازية، ماريا وائل في دور شيحة، محمد حيدر في دور القاضي بدير، محيي الشاعر في دور وهدان، أما شباب الهلالية فهم محمود جميل أحمد إسماعيل وحبيبة وسلمى.


نقلا عن الوطن السعودية

ads