بقلم ميسون الدخيل: من يحرس الحرَّاس
الإعلام الغربي بمؤسساته وكل من ينتمي إليه، ينظرون إلى أنفسهم على أنهم حرّاس العالم ويقدمون أنفسهم رواد الحق والعدل والخير والمساواة. غالبًا ما كنت أشعر بأنهم يتعاملون مع الموضوعات التي تخص العرب والمسلمين، باستعلاء وتفاخر! نحن بالنسبة إليهم متخلفون أبعد ما يمكن أن نكون عن المدنية مهما حاولنا أن نثبت لهم عكس ذلك. كنا دائمًا وما زلنا في وضعية المدافع! ليس عندهم غير الهجوم ونادرًا ما كان يعطى صوت من هنا أو هناك الفرصة كي يتحدث بموضوعية ومنطقية شارحًا تاريخنا وكل ما قدمناه للإنسانية.
هم فوق ونحن تحت، ولكي نصعد يجب أن نسير على هواهم وإلاّ... نعم كانت هذه الـ «وإلّا» تأرجح فوق رؤوسنا عند كل مفترق من الأحداث المحورية المهمة، خاصة في التاريخ الحديث!
اليوم أشعر بالسعادة والانتشاء، وأنا أشهد هذا الإعلام المتعجرف يتلقى الصفعة تلو الأخرى، ليس من قبلنا، بل من أبناء جلدته، ومن جيل سعى على أن يجرده من الأخلاقيات والمثل، فكانت الضربة العكسية التي تلقاها أن هذا الجيل كان يحمل ضميرًا حيّا، ونبضاته الحية جعلته يرفض هذا الضليل وهذا الاستعلاء، فضرب وأوجع!
جيل متمرد يعتقد بأنه لا يحتاج إلى من يرشده، وإعلام متعال يؤمن بأنه هو فقط صاحب القول الفصل صانع الحضارة وحامل مشعل الحقائق.
ما الذي حدث عندما التقى الجمعان؟
الذي بدأ من الصفر، تحرك ليبحث، لم يتقبل السرديات التي كانت تفرض عليه، وعمل على التأكد بنفسه، وبكل ما يملك من المهارات والقدرات التقنية، استطاع أن يدحض الأكاذيب والفبركة التي كانت تبث ليلًا ونهارًا على الأثير من خلال جميع وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية رسمية. بدأ من نقطة تفاخر لكنه وصل إلى نقطة التواضع والتركيز ليس على عرض قدراته، بل على الأحداث كما هي، وكما يجب أن تصل لتتم التوعية وإيقاظ المجتمع من ظلمة التعتيم وحقارة الكذب وجبن المواجهة.
أما الذي كان مستمرًا في التغطيات الأحادية الاتجاه والمنشأ، والذي كان يظن بأنه ملك الساحة، بات بعد الصفعات يعيد حساباته كي لا يظهر أمام المجتمع المحلي والدولي، كدمية يتلاعب بها عصبة من أصحاب المال والأعمال. الكثير منهم ما زال «يعافر» لكن الخسارة التي يتلقاها يوميًا للمصداقية والاعتماد الأعمى باتت فادحة الثمن وفي كل يوم ترتفع الخسائر!
إن أكبر مثال على أهمية التعليم الحقيقي غير الخاضع لسلطة المال والنفوذ، هو أحداث جامعة هارفارد: جيل بحث وتأكد ثم واجه ودعم، سلطة حاولت بكل السبل التحكم به من خلال الهجوم الشرس على رأس الهرم الجامعي الذي فتح لهم مجال التعبير الحر، وتمخضت الأحداث عن تأكيد أن التعليم الحقيقي والتمسك بالقيم الأخلاقية وحرية الرأي أهم من أي خسائر مادية.
يحكى أن إعلاميًا شهيرًا كان يُدرس مادة السياسة والإعلام والأخلاق، لكن كان الطلبة يكرهونه لأنه دائما ما كان يستخف بذكائهم متعمدًا إظهار تفوقه عليهم. وفي أحد الأيام، استجمعت طالبة شجاعتها في القاعة لتطرح عليه سؤالاً بسيطًا: «كيف يكتسب المرء الحكمة؟»
كان السؤال مفاجئًا بالنسبة إليه وشعر بالارتباك لكنه أوضح لها بأنه لا يعرف وليس لديه إجابة على سؤالها، وأتبع موضحا بأنه يركز على الأخلاق والإعلام والسياسة، لا نظرية المعرفة.
استغربت الطالبة وقالت: «أنت تتفاخر بمدى ذكائك ومدى غبائنا، لكنك لا تستطيع الإجابة على سؤال بسيط: كيف يكتسب المرء الحكمة؟!» هنا انفجرت القاعة بالضحك.
وفي اليوم التالي، واجه الإعلامي الطالبة قائلاً: «السبب الوحيد لعدم تمكني من الإجابة على سؤالك بالأمس هو أنه لم يكن لدي الوقت للتفكير فيه، وإلا فالجواب بسيط: يكتسب المرء الحكمة من الاستبطان، في الواقع، هذه هي الطريقة الوحيدة لاكتساب الحكمة».
ابتسمت الطالبة وسألت: «هل أنت متأكد؟ فإذا كان بإمكاننا اكتساب الحكمة فقط من خلال التفكير بمفردنا، لماذا إذن نأخذ دروسًا منك؟» ومرة أخرى وقف الإعلامي عاجزًا عن الكلام وسط زوبعة من قهقهة طلبة القاعة.
وفي اليوم التالي حضر الإعلامي وقد بدى مختلفًا، ظهرت عليه سمة جديدة... لعلها التواضع، وما أن رأى الطالبة خاطبها قائلاً: «أعتذر عن كوني كنت متعجرفًا للغاية طوال فترة المحاضرات. أرجو أن يُغفر لي ذلك، أنتِ فعلًا ببساطة قمتي بتلقيني درسًا مهمًا؛ ألا وهو أنه يمكن للفرد أن يحصل على الحكمة من الآخرين».
كبر رأس الطالبة وأرادت كما يقال: أن تضيف على الجرح ملحا، وبصوت ينضح شماتةً قالت: «أنت لست بكل هذا الذكاء الذي كنت تتباهى به علينا، وأنا الآن أعرف أكثر بكثير مما تعرفه أنت، وعليه يجب أن أقوم بالتدريس بدلًا منك، لأنه وبصراحة تامة لا يوجد لديك شيء آخر يمكنك أن تعلمني إياه».
كانت هذه فرصة الفيلسوف، الثغرة التي أراد أن يدخل منها، وقدمتها له على طبق من فضة، حيث أجاب: «حقًا؟ كنت على وشك أن أعلمك طريقة ثالثة لاكتساب الحكمة لم يتطرق إليها أي منا في حوارنا من قبل. ولكن أعتقد أنه يمكنك إخبارنا بما أنك تعرفين أكثر!»
تلعثمت الطالبة ندمًا لتسرعها بالتفاخر والشماتة، وتمتمت بصوت يكاد لا يسمع: «لا أستطيع...» ضحك جميع من كان في القاعة من الطلبة، وبعد صمت طويل ومحرج سألت: «ما هو؟»
أقترب الإعلامي من مكانها ونظر إليها مباشرة وقال: «يمكنك اكتساب الحكمة من الخبرة. لقد علمتني تجربة الإحراج هذه والتي كانت داخل هذه القاعة وأمام الجميع، نعم بسبب التفاخر تعلمت التواضع. آمل أن يكون قد وصلك نفس الدرس أيضًا».
نعم لقد وصل الدرس إلى جيل الألفية لدى الغرب، والذي بدوره أعطى نموذجًا لما يجب أن يكون عليه المجتمع الواعي؛ فمن خلال البحث والتحقق من الحقائق، ومن خلال التثقيف المكثف باستخدامهم المبتكر لــ «ـTikTok» وبقية وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، ومن خلال العمل على التذكير باستمرار بأن أي تقدم يتم إحرازه في أي صراع ويستبعد المحرومين والمظلومين لا يعد نصرًا حقيقيًا ولكنه ظلم وجبن وانسحاب، نجح في إيقاظ المجتمع الغربي من سباته وتخديره.
نتمنى أن يخرج الإعلام المتعجرف والمنحاز من هذه التجربة بقليل من التواضع والكثير من الشجاعة لمواجهة سلطة المال والنفوذ الذي يفرض أجنداته العفنة عليه، ومن يدري فقط تتحقق هذه الأمنة إن استمر جيل الألفية بمواجهته بنفس الزخم وبنفس الروح فيكونون هم الحرَّاس.