بقلم فاطمة المتحمي: القرار وليد الثقة
ليس أصعب ما يواجه الإنسان نقص المعرفة، بل فقدان الثقة في لحظة الاختيار. فكثيراً ما نقف أمام القرارات ونحن نملك القدرة على التفكير، لكننا نفتقد الطمأنينة التي تدفعنا للمضي. نتردد، لا لأن الطريق غير واضح، بل لأن الداخل لم يحسم أمره بعد. فكل قرار في جوهره لا يُتخذ بالعقل وحده، بل يولد أولاً في مساحة أعمق؛ في الثقة. الثقة بالله، وبالنفس، وبأن السعي الصادق لا يضيع، حتى وإن بدت النتائج مجهولة.
من هنا، تأتي الثقة بالنفس لا بوصفها حالة من الغرور، ولا ادعاء للقوة، بل سكينة داخلية تنبع من معرفة الإنسان بنفسه، ومن حسن ظنه بربه قبل أي شيء. حين يدرك الإنسان أن الله لم يخلقه عبثا، ولم يضعه في هذا الموضع من الحياة صدفة، تبدأ ثقته بذاته بالتشكل على أساس ثابت، لا تهزه المقارنات، ولا تزعزعه نظرات الآخرين.
وتشكل هذه الثقة في نظرتنا لأنفسنا، تلك النظرة التي تشبه المرآة التي يرى الآخرون من خلالها حضورنا. ليست حكماً قاسياً، بل انعكاساً هادئاً لما استقر في القلب. فكلما تصالح الإنسان مع ذاته، وأدرك قيمته ودوره الذي خُلق له، ظهر ذلك طبيعياً في صوته وسلوكه وقراراته، دون ادعاء أو مبالغة. وما يستقر في الداخل لا بد أن يجد طريقه إلى الخارج، بهدوء وصدق.
وتتجلى الثقة بالنفس بوضوح أكبر في لحظة اتخاذ القرار. فالإنسان بطبيعته يخاف المجهول، ويبحث عن اليقين، غير أن اليقين الكامل ليس من نصيب البشر. فديننا الحنيف يُعلمنا أن نتدبر بعقولنا، ثم نستخير، ثم نمضي متوكلين، مدركين أن النتائج ليست بأيدينا، وأن الله لا يضيع سعي صادق. فاختيار القرار ليس إعلانا عن الكمال، بل تحملا واعيا للمسؤولية.
ومن هذا المنطلق، يصبح تحمل نتائج القرار الوجه الآخر للثقة. فالإنسان الواثق لا يهرب من اختياراته، ولا يقسو على نفسه إن أخطأ بعد اجتهاد. يعلم أن الله كلفه بالسعي لا بالنتائج، وأن كل تجربة، مهما بدت قاسية، تحمل في داخلها معنى ونضجا. ترى الفلسفة أن الإنسان يتكون عبر التجربة، كما الأجر في نهجنا الإسلامي مرتبط بالنية والسعي.
ولا تقتصر الثقة بالنفس على التفكير والاختيار، بل تظهر كذلك في الإقدام على الفعل. فكثير مما نخشاه ليس الفشل ذاته، بل تحمل مسؤولية المحاولة. نؤجل، ونتردد، ونبقى أسرى التفكير الطويل، وكأن التوقف يحمينا. لكن الحقيقة أن الحياة لا تنتظر، والخوف الدائم يسلب الإنسان فرصه أكثر مما يحميه.
ومع مرور الوقت، يكتشف الإنسان أن الندم الحقيقي لا يكون - غالباً - على ما فعله، بل على ما لم يفعله. على خطوة لم يُقدم عليها، أو كلمة لم تُقل، أو فرصة تُركت تمر. يبقى عالقاً في دوامة «ماذا لو فعلت؟» وكيف كانت ستكون النتيجة؟ وهي دوامة لا تعيد الزمن، ولا تمنح إجابة، بل تستهلك القلب وتثقله.
وفي هذا السياق، تقول الفلسفة إن الزمن لا يعود، ويذكرنا ديننا أن العمر أمانة، وأن الفرص لا تأتي دائماً في التوقيت ذاته. لذلك، فالثقة بالنفس ليست مجرد شعور، بل موقفا واعيا من الحياة، واختيارا بأن نعيش بالفعل لا بالافتراض، وبالتجربة لا بالندم.
في النهاية، لا يُقاس الإنسان بعدد قراراته الصائبة، بل بقدرته على أن يختار وهو مطمئن، وأن يتحمل وهو ثابت، وأن يمضي وهو متوكل. فحين تكون الثقة حاضرة يصبح القرار فعل إيمان لا مجرد خطوة عابرة؛ إيمان بأن السعي مسؤوليتنا، وأن النتائج ليست حملاً علينا، وأن التقدم حتى وإن تعثر خير من الوقوف في دوامة الخوف. هكذا يولد القرار من الثقة، ويكبر معها، ويمنح الإنسان سلامه الداخلي.