محيي الدين جاويش يكتب: الحرب والبراري وصخب الحياة الباريسية.. أطوار موباسان التي ولّدت إبداعه النادر
الجمعة 01/سبتمبر/2023 - 07:47 م
تشيكوف فرنسا رصد الواقع وترك للقارئ مهمة النفاذ إليه
برز في أدبه الميل للضعفاء والمنبوذين وعشقه للريف والصيد والسفر
يقدم الكاتب الفرنسي الفذ غي دي موباسان وجبة شهية لعشاق القراءة الأدبية في أقصوصاته التي تعد نمطاً مثالياً لقالب القصة القصيرة كامل الأركان والمتعدد الأشكال والصور وكيف لا وهو أحد آباء القصة القصيرة والذي يعتبره النقاد غير الفرنسيين القاص الوحيد الذي أنجبته فرنسا.
قصص موباسان القصيرة وان اختلفت صورها السردية وقوالبها الحكائية إلا أنها تشابهت في كونها تحمل روح موباسان المحبة للترحال والتنقل والملاحظة والعاشقة للسهوب والبراري والأودية الفسيحة التي لا تتشابه في شيء مع حياة المدينة والوقائع اليومية للحياة الباريسية وظروف الحرب والوظيفة العامة.
حياة موباسان التي مرت بأكثر من طور انصبت على الكتابة وطبعت بطابع كل واحد من تلك الأطوار فترك لنا من تلك التجارب الثرية والحياة المفعمة إرثا ادبيا لم تقدره فرنسا حق قدره
من خلف موباسان وقفت أمه _ التي ورث عنها حب الأدب والتنقل_ تشجعه وتهتم به منذ بداياته الأدبية الأولى وتوصي به لصديقها غوستاف فلوبير الذي تعلم منه الواقعية وهو ما تلقفه منه وانعكس في أقاصيصه من خلال التحديد الدقيق للتفاصيل والمظاهر الجميلة والقبيحة في العالم المحيط به فكان من مكانه يرقب تفاصيلاً لم يلاحظها أحد قبله ولم يصورها أي سابق له في نفس روعته كما برع في الوصف الدقيق والواقعي للحياة اليومية ، وعلى الرغم من حياته الشخصية التي أثارت الكثير من الجدل والتي انتهت به للجنون والوفاة في السادس من يوليو 1893 عن عمر يناهز الثالثة والأربعين تجلت موهبة موباسان الأدبية ومهارته الفنية في قصصه القصيرة التي تركزت فيها السمات المميزة لأسلوبه المتفرد وهي التي أهلته لاحتلال مكانة مرموقة في الأدب الفرنسي.
حياة موباسان كانت أقرب للعبثية والشرود في التطبيق العملي للمبادئ التي آمن بها ورزعتها أمه بداخله وهو هنا يأخذ من والده الثري الجامح خلف متعه ونزواته المنفق ببذخ عليها حتى الإفلاس شيئا من طبائعه فلقد أراد أن يصبح كاتبا شهيرا ينبذ الفقر بمال ينفقه ويضيعه على ملذات مترفة وبذلك يستقطب ود وحب النساء جميعهن ولذلك عزف عن الزواج لأنه بنظره يقضي على الإبداع وانصب على الكتابة فكتب خلال اثني عشر عاما مجموعة قصصية وست روايات وثلاث مجلدات من حكايا الرحلات ومئات الأخبار… كل هذا في وسط حياة مدنية تتخبط بالحوادث وربما كان سبب هذا النشاط المحموم هاجسه بنهايته المبكرة.
شب موباسان المولود في العام 1850 وترعرع في الريف النورماندي حيث عاشر أهل القرية وتعلم كيف يراقب الفلاحين ويهتم بعاداتهم ولعل هذه البيئة التي تركت طابعها داخل موباسان هي التي جعلته يهرب من سهرات المجتمع المخملي وحفلات الطبقة الراقية في باريس إذ اتسمت شخصيته بالميل نحو الاستقلالية وحب التفرد والعزلة ورغم حب موباسان للوحدة إلا أن الكآبة أصابت روحه وسدت الأفق أمام عينيه ومحت الأمل في الوجود فاتجه إلى وضع نهاية لحياته عندما فكر في الانتحار إلا أن محاولته باءت بالفشل قبل أن يغرق تماماً في حالة من الجنون الهذياني نتيجة تلف جهازه العصبي وإن أنكرت الكاتبة الإنجليزية مارلو جونستون التي قدمت سيرة حياة موباسان إصابته بالجنون مؤكدة أنه لم يكن مجنوناً ولكنه عانى بالمقابل من آلام جسدية مبرحة بعد إصابته بمرض الزهري وذلك عندما كان شابا يافعاً بل شككت أصلا في إصابته بالزهري كذلك.
ولعل كآبة موباسان هي التي صبغت اقاصيصه وحكاياته بصبغة التشاؤم نحو الوجود والمجتمع وعن هذا الشعور الرهيب يقول موباسان في إحدى رسائله:" أشعر بنفسي وحيداً، إن امسيات الوحدة الطويلة ترعبني في بعض الأحيان"، ومن الجدير هنا ان نلفت إلى أنه عندما بلغ موباسان الثلاثين من عمره كانت قد اكتملت ثقافته تقريبا إلا أن موت أستاذه فلوبير المفاجئ ترك أثرا مؤلما قطع المعين الذي يمده ويوجهه وربما نزعات الكآبة والوحدة التي تفجرت في حياته لاحقاً نبعت من هذا الأثر.
الفترة التي قضاها موباسان في الجيش كان لها بالغ الأثر في حياته فبعد انتهاء المرحلة الدراسية دخل كتيبة المدفعية التي قضى فيها فترة الحرب بين فرنسا وألمانيا لكنه لم يشارك أبداً في المعارك وهذه الفترة يصفها موباسان ب" الهمجية" وكان يؤكد دائماً أن الصراعات المسلحة ليست سوى حل عبثي للخلافات بين الشعوب ، بعد انتهاء الحرب عمل موباسان في وزارة البحرية والمستعمرات كموظف عادي ثم في وزارة التعليم العام والفنون الجميلة وهنا بدأت أولى علاقاته بالحياة البيروقراطية والتي انتقدها في أعماله الأدبية بكل ما فيها من رتابة وملل وعقليات متجمدة تؤمن وتعيش وتشكل تلك الحياة وبطبيعة الحال لم تكن روح مثل روح موباسان لتستمر طويلاً في هكذا حياة فتحرر من قيود الوظيفة وانطلق حراً نحو عالم الصحافة والتي كانت كتاباته بها مثل تمارين أولية تمهد لدخوله إلى دنيا الكتابة الأدبية وهي نفس الفترة التي بدأ فيها موباسان يعاني مشكلات صحية.
نشر موباسان رواية "بول دوسويف" في 1870 وهي الرواية التي فرضته كاتبا متميزا أمام الجميع لكن قصة "الحلية" أو "العقد" التي نُشرت القصة لأول مرة في 17 فبراير 1884 كانت علامة فارقة إذ اجتمعت آراء النقاد في العالم كله على أن هذه القصة هي النموذج الكامل للقصة القصيرة ذات النهاية المفاجئة التي تتوافر فيها العناصر الأساسية للقصة القصيرة: الشخوص والمكان والزمان والمسوغات المنطقية للأحداث والنهاية كما تتوافر فيها عناصر أخرى مثل : التشويق والمصادفة المعقولة والتصوير الدرامي والتدرج لبلوغ النهاية.
تميزت كتابات موباسان وحكاياته وحتى رسائله بملاحظات دقيقة وأفكار جذابة وأسلوب واضح سلس غني بحسن التوازن والمواد الغنية بالحكايات التي تدور في باريس والمكاتب العمومية والريف وسهوب الصيد والقرى النائية التي يقطنها فلاحون وريفيون نبلاء تدور بينهم حكايات الصيد والذكريات وقصص الحب والمشاعر وانفعالاتها وثوراتها وآلامها ومن اللافت في حكايا موباسان أنها تحوي ملاحظات قريبة من التحليل النفسي إذ يسلط الضوء على دخائل الشخوص دون أن ينفذ إلى أعماقهم تاركا للقارئ مهمة النفاذ تلك كما يتضح في أسلوب موباسان ميلاً واضحاً للتعاطف مع الفقراء والمنبوذين من المجتمع كما يقوم في الحكايات بالتأمل في الأحداث الاجتماعية العادية لشخوصها فيعمل على تفسير أو وصف مواقف بها بشكل بالغ الدقة والسلاسة ومن الأشياء المهمة التي تميز بها أدب موباسان هو انه يختار النهاية التي يفرضها الواقع المرسوم في القصة ولا يعتمد النهاية النمطية المتوقعة او المثالية التي يتوقعها القارئ.
موباسان وصف كل الأوساط التي تردد عليها في حياته لهذا نقول إن حكاياه وقصصه هي صورة مقتضبة لحياة موباسان الواقعية القصيرة التي عاشها فنجده يصف الريف وعاداته وأهله كما يصف المجتمع الباريسي المخملي والأهواء التي تطيح بأفراده ولا ينسى الحرب وفظائعها وآلامها وتميزت اقاصيص موباسان بالموضوعات التي تنوعت بين الحب والجيش والعلاقات الإنسانية والغرامية والفحش والنساء والصيد والريف والمدينة والموت والبحر والجنون والجريمة والثأر والصيد والاستجمام كما أن موباسان أعطى في كتاباته مجالا واسعا للرغبة والشهوات الحسية الني تبدو له عاملاً حاسماً وجوهرياً في الحب والشخصيات في أدب موباسان لا تختلف إلا حسب انتمائها إلى طبقة اجتماعية: أغنياء، فقراء، نبلاء، برجوازيون، نساء ضعيفات، أزواج مخدوعون، عشاق متطفلون .. الخ
يبقى أن نقول ان ما كان يراه موباسان لم يكن ينقله للقارئ كصورة فوتوغرافية مصورة _ وهنا تكمن روعة هذا الكاتب_ بل كان يقدم رؤية عن الواقع بشكل أقرب إلى الواقعية والكمال ويعطي للقارئ مساحة التخيل والنفاذ إلى هذا الواقع للشعور به والإيمان بتفاصيله وموجوداته.
قصص الصيد في أدب موباسان تتناول الآثار الأدبية التي تحمل انطباعات المؤلف عن رحلاته في الريف النورماندي وتصف ما رآه من عادات البشر وسلوكهم وأخلاقهم بنقل أمين يصور به أنماطاً من البشر يمثلون الطبيعة الإنسانية في كل زمان ومكان كما اعتنى بذكر الأحوال الاجتماعية والاقتصادية وهو انعكاس لحب موباسان الجم واستمتاعه بالطبيعة من حوله المتمثلة في حياة القرية والريف إذ كان كثيراً ما يمكث ليراقب حياة الفلاحين ويتعرف علي عاداتهم كما كان يذهب للبحر ويتابع الصيادين أثناء صيدهم للسمك وقال في ذلك:" لقد كبرت على شواطئ بحر الشمال الرمادي والبارد".
غي دي موباسان او تشيكوف فرنسا كما يطلق عليه احياناً الكاتب الفذ الفريد من نوعه ترك إرثاً ثميناً جمعه في اثنتي عشر سنة حيث قدّم حوالي 300 أقصوصة وسبع روايات وعددا من حكايات السفر واليوميات إضافة إلى مراسلاته التي وصل عددها إلى الـ800 رسالة جاءت قصصه تصور واقع المجتمع الفرنسي بشكل حي بكتابات تبدو هادئة مطمئنة إلا أنها كانت تملك من العمق ما يشي بأنه يقرأ البعيد ويرسم للمدى الأبعد.