محيي الدين جاويش يكتب: راوية الأفلام.. إيرنان ريبيرا يقدم قصة تُشاهد وفيلما يُقرأ!
الأربعاء 16/أغسطس/2023 - 10:59 م
عندما يتحدث كاتب في رواية له عن حكايا إنسانية في مدينة أو قرية فإنه سيضع بين دفتي كتابه عشرات الصفحات التي تغص بالمعاني والجمل والعبارات التي يحاول بها _إن استطاع _ وصف الحياة وحكاياتها الرئيسية والفرعية .. لكن ما فعله إيرنان ريبيرا تيلر في روايته " راوية الأفلام " التي ترجمها إلى العربية صالح علماني قلب هذا الأسلوب رأساً على عقب دون إخلال أو تقصير حيث يحكي بأسلوب فتّان و مؤثر قصة الحنين إلى السينما وهي في مجدها الكامل في قُرى جنوب أمريكا.
كاتب الرواية هو إيرنان ريبيرا لتيلير المولود في تشيلي عام 1950 نال العديد من الجوائزمنها الجائزة القومية للكتاب بتشيلي لعامي 1994 و1996 كذلك وسام الجمهورية الفرنسية بدرجة فارس في الآداب والفنون وذلك عن جهوده في سبيل نهضة الفن ونشره في العالم.
بالرغم من أن أعمال ريبيرا المبكرة غلب عليها الشعر والقصص القصيرة إلا أن أعماله الروائية هي ما كتبت له النجاح الأعظم ترجمت كتبه إلى عدة لغات ومن المتوقع أن يتحول بعضها إلى أفلام يحلم ريبيرا بأن يمتلك أسلوب أدبي يميزه عن الآخرين. أسلوب يمزج سحر خوان رولفو وغرائب ماركيز وبهجة كورتاثار وجودة فوينتوس وذكاء بورخيس مع بعضه البعض.
ريبيرا قدم سرداً لروايته بسلاسة منقطعة النظير وصوّر المواقف والحوادث التي تدور في أحياء الصفيح والحياة الأسرية في البيت الغارق في الفقر المدقع ومأساة والديّ ماريا مارجريتا وإخوتها وهي بطلة القصة بأقل عدد من الكلمات وبعبارات سلسة وسهلة وموجزة بالرغم من أن المأساوية التي تتسم بها الرواية قد تحتاج من كاتب آخر إلى إطناب وإسهاب فكانت الرواية مكتوبة بطريقة "التكثيف" حيث لا مكان لكلمة زائدة وبأسلوب الواقعية الساحرة أهم مميزات الأدب اللاتيني والتي تجعلك رغماً عنك تعيش بها وأنت تلاحق الأحداث ساعد على ذلك بالتأكيد الترجمة المميزة لصالح علماني الذي استطاع أن ينقل إلى العربية روح الرواية كما هي.
والمترجم صالح علماني ولد في مدينة حمص بسوريا عام 1949و درس الأدب الإسباني وأمضى أكثر من ربع قرن في ترجمة روائع الأدب اللاتيني ليُعرّف القرّاء العرب على عشرات الأعمال المتميزة والمهمة حيث شترجم أعمال غابرييل غارسيا ماركيز وإيزابيل ألليندي وبابلو نيرودا وخورخي لويس بورخيس وجوزيه ساراماجو وماريو بارجاس يوسا وإدواردو جاليانو وأنطونيو سكارميتا وخوسيه ماريا ميرينو وجيوكوندا بيللي وميجيل دي أونامونو ومانويل ريفاس وماريو بينيديتي وميغل أنخل أستورياس وخوان رولفو وبرناردو أتشاجا و برناردو كوردون، وغيرهم
"راوية الأفلام" الصادرة في تشيلي عام 2009 والمنقولة إلى العربية في العام 2011 يصور فيها المؤلف على لسان بطلة القصة الحياة الصعبة والقاسية لسكان قرية يعمل سكانها في مناجم الملح الصحراوية وتلك الظروف تشابه إلى حد التطابق ظروف نشأة إيرنان ريبيرا تيلر الحقيقية والتقط ريبيرا فكرة الراوي الذي كان يحكي الحكايات للأميين والعجائز في القرى الفقيرة وجعلها أداة السرد في "راوية الأفلام" والتي استرجع بها ذكريات دور السينما وهي في أوج مجدها في أميركا اللاتينية عبر حكاية طفلة من إحدى القرى الصغيرة بتشيلي اشتهرت بقدرتها الآسرة على إعادة سرد قصص الأفلام فكلما عرض فيلم جديد في سينما القرية أعطت لها أسرتها التي تعشق الأفلام السينمائية لكنها تعيش في فقر وبؤس يمنعانها من الحضور جماعة أو فرادى لمشاهدة الأفلام التي يحبونها فكان الحل السحري بأن تدفع الأسرة تذكرة واحدة للفتاة لكي تشاهد الفيلم ومن ثم تعود لتحكيه لهم بطريقتها الجذاب.
هذه الطفلة تروي حكاية وجع حقيقي لأناس يعيشون البؤس في تلك البقعة الجغرافيّة البعيدة تروي حكاية الاضطهاد والفقر والصراع الطبقي حكاية الظلم والدكتاتوريات.
ومع استمرار الروايات التي تجسدها الفتاة ازدادت شهرتها وتنامت إذ تفننت في راوية الأفلام وعرضها في بلدتها الفقيرة الحزينة بكل ما تستطيع من أداء تمثيلي وإكسسوارات وملابس إلى درجة صار بعض الناس يدعونها لتروي لهم أفلاماً في بيوتهم مقابل مبالغ معينة لكن ذلك تسبب لها بمشكلة كبيرة وبخاصة مع المرابي أو الرجل الغني الذي اعتدى عليها وعلى براءتها وكتمت الأمر عن والدها.
هذه الطفلة التي رسمها ريبيرا في قصته روت بلسانها حكاية وجع حقيقي لأناس يعيشون البؤس في تلك البقعة الجغرافية البعيدة روت حكاية الاضطهاد والفقر والصراع الطبق وحكاية الظلم والديكتاتوريات وحكاية زمن ثورات التحرر الإنساني وحكاية بؤس إضافي حل حين حضر التلفاز حيث باتت صالات السينما شاغرة وانطفأ الشغف العظيم بها بعد انتشار الجهاز الجديد في القرية.
تتصاعد الأحداث في الرواية بجاذبية وتشويق بداية من المسابقة التي أقامها لهم والدهم المشلول الذي لا يستطيع الذهاب إلى السينما والذي أطلق عليهم جميعا أسماء تبدأ بحرف "الميم" لأنه كما يقول في الرواية: "إن هذا هو السر في أعظم فناني السينما وانتهاءً ببقائها وحيدة في المعسكر الملحي حيث عاشت بعد أحداث مأساوية عاصفة تتدبر أمرها بالعمل كدليل للزائرين والسياح وبيع بعض الأشياء القديمة التي تجدها أثناء تجوالها في البيوت المهجورة.
"راوية الأفلام" رواية قصيرة بمئة وتسع صفحات تناول الروائي حبكتها وشخصياتها وأحداثها بالكثير من البراعة والسرد المشوق الأصيل الذي عرض فيه ثقافة سينمائية عالية يتمتع بها وذكريات دور السينما قبل ظهور التلفزيون في تشيلي ولعل النهاية التي رسمها ريبيرا للقصة والتي صورها كخاتمة فيلم سينمائي كانت واحدة من النهايات العبقرية التي كتبت في الأدب الحديث وربما في تاريخ الأدب كله حيث أنهاها بتلك الجملة:
" أراهم يتلاشون في الأفق مثل سراب، بينما تكون الموسيقى التصويرية آخذة في الانطفاء شيئاً فشيئا وعلى ظلالهم الباهتة تظهر بحزم وحتميّة الكلمة التي لا يرغب أحد في الحياة في قراءتها".
ونقدم لكم من خلال موقع هير نيوز، أخبار وتقارير، صاحبة المعالى، منوعات، فن وثقافة، كلام ستات، بنات، هير فاشون، حوادث، رياضة، صحتك، مال وأعمال، توك شو، مقالات، دنيا ودين.