الأربعاء 24 أبريل 2024 الموافق 15 شوال 1445
رئيس مجلس الإدارة
خالد جودة
ads
رئيس مجلس الاداره
خالد جوده

حرّية نساء «التيك توك» من حرّيتنا

السبت 18/مارس/2023 - 05:31 م
هير نيوز

بدأت موجة قمع ممنهجة استهدفت نساء صانعات محتوى على تطبيق "تيك توك" في مصر. بدأت الموجة بمجموعة من الرجال صانعي المحتوى على "يوتيوب"، أشهرهم ناصر حكاية، يختارون بعضاً من النساء صانعات المحتوى على "تيك توك" ويقومون بالتشهير بهن والتحريض ضدهن، ثم يتطور الأمر لتقديم بلاغ من قِبل بعض المحامين ومن ضمنهم المحامي الأشهر أ.ف الذي أطلق حملة على منصّات التواصل الاجتماعي بالتوازي مع حملات القبض على النساء بعنوان #خليها_تنضف.

بعد تقديم البلاغ تصدر النيابة بمنتهى السرعة أمر ضبط وإحضار للنساء المستهدفات ويُقبض عليهن. قُبِض أوّلاً على كلٍّ من حنين حسام ومودة الأدهم، تلتهما منة عبد العزيز ثم شيري هانم وابنتها زمردة، ثم منار سامي وريناد عماد ثم هدير الهادي وبسنت محمد. أُحيلت قضايا ثلاث من النساء التسع للمحكمة حيث حُكم على حنين حسام ومودة الأدهم بالسجن سنتين وغرامة 300 ألف جنيه، وعلى منار سامي بالسجن ثلاث سنوات وغرامة 300 ألف جنيه وكفالة 20 ألف جنيه لوقف تنفيذ الحكم لحين الاستئناف.

ما يحدث مع نساء "التيك توك" هو محاولة لجعلهن عبرة. تحاول قوى الأبوية المتشابكة والمتعاونة فيما بينها إيصال رسالة واضحة: إن لم تفرضي على نفسكِ الرقابة الذاتية اللازمة وإن لم تراقبكِ عائلتكِ، سنراقبكِ نحن، سنستخدم كلّ الأسلحة والخطابات والمفاهيم المُرسّخة للتنكيل بكِ. هذه القوى في حالة نساء "التيك توك" ليست قوى الدولة فقط، ولكنها تشمل كلّاً من رجال صانعي محتوى، وإعلام مُحرّض، ومحامين مستعدّين لتقديم البلاغ، ونيابة تستجيب للبلاغ وتصدر أوامر الضبط والإحضار، وقانون هُلامي مطعون في دستوريته(link is external)، وقضاء يحكم بمنتهى السرعة وبأغلظ العقوبات، وشركات مثل "يوتيوب" تحقّق الأرباح من المحتوى التحريضي، ونسوية دولة متمثلة بـ"المجلس القومي للمرأة" لا تتسع اهتماماته لنساء "التيك توك". تستخدم مؤسسات الأبوية أجسادنا كنساء مساحةً لفرض الهيمنة والسلطة، تجعل الأبوية أجسادنا عبئًا علينا بكل الفروض والحدود المرسومة التي يجب أن نحافظ عليها متى نتكلم أو نسير في الشارع أو حتى نجلس في منازلنا مع آبائنا وإخواننا الذكور. وتعاقبنا مؤسسات الأبوية بطريقة ممنهجة إذا تعاملنا مع أنفسنا وأجسادنا من منطلق مغاير. في هذا الإطار، العنف الجنسي هو فعل ممارسة الهيمنة والسلطة، نابع من استحقاق ذكوري يعطي للرجال الحق في ممارسة السيطرة على كلّ الأجساد الغير رجولية الموجودة في فضاءاتهم، كما يحتوي على رغبة في العقاب بالإيذاء، واستخدام "الجنس" كأحد أنماط العنف الممارَسة على النساء. ينطلق العنف الجنسي من الطريقة التي يُرى بها الجنس في ظل النظام الأبوي ذو المعيارية الغيرية، فالجنس لا يُرى باعتباره فعل إنبساط أو متعة بل كفعل إثبات فحولة الرجال وخضوع أجساد النساء. من هنا، يبرز العنف الجنسي كأحد تجسيدات الأبوية العنيفة والمسيطرة ولكنه ليس الشكل الأوحد لها.

ما حدث مع منة عبد العزيز (آية) هو تجسيد لهذه الديناميكية: استيقظنا لنجد فيديو لفتاة تبدو صغيرة في السن، وجهها مليء بالكدمات ومنهارة في البكاء، تحكي فيه ما تعرّضت له من اغتصاب على يد شخص يُدعى مازن ابراهيم، بالتعاون مع رجال ونساء آخرين، اعتدوا عليها وصوّروا واقعة اغتصابها وهدّدوها بنشر مقاطع الاغتصاب على الانترنت. تستكمل منة شهادتها وتستغيث مُطالبة المجتمع والدولة بدعمها قائلة "أنا عايزة حقي". لا يمكن إغفال حقيقة أن ما تعرّضت له منة حدثَ مباشرةً بعد القبض على حنين حسام ومودة الأدهم، وبعد نشر منة شهادتها قام مازن ابراهيم (مغتصبها) بكتابة منشورات تدّعي أن منة عبد العزيز لم تكن "بنت" - أي عذراء - ودعا الناس لمشاهدة المحتوى الذي تقدّمه على "تيك توك"، بطريقة جعلت من هذه الدعوة ومن مقاطع منة على "تيك توك" وكأنها دليل براءته ومبرّر كافٍ لاغتصابها، باعتبارها تستحق الاغتصاب. لم تتعرض منة فقط للاغتصاب، بل أتى قرار النيابة بالقبض عليها وتوجيه اتهامات لها بسبب المحتوى الذي تنشره على "تيك توك" في نفس القضية مع المعتدين عليها ومغتصبها كعنف مضاعف. وبالرغم من إحالة المعتدين عليها للمحكمة، ما زالت منة مقيّدة الحرية، حيثُ استبدلت النيابة حبسها الاحتياطي بأحد التدابير الاحترازية الأخرى واحتجزتها في دار إيواء للنساء المعنّفات، وكما جاء في بيان النيابة العامة(link is external)، أخذت النيابة هذا القرار لأن منة تحتاج "للإصلاح".

في مجتمع يهيمن عليه الوعي الأبوي والذكوري، تُرى النساء كغاويات، هنّ مصدر الإغراء والفتنة، والانتهاكات المرتكبة بحقهن نتيجة منطقية لسلوكهن، فهنّ سبب الوقوع في الخطيئة؛ على سبيل المثال يقول ناصر حكاية في أحد فيديوهاته(link is external) المحرّضة ضد مودة الأدهم "الشباب الصغيرين لما بيتفرجوا على الاشكال دي أكيد غرايزهم بتتحرك!"، بالتالي ومن وجهة نظره تدمّر نساء "التيك توك" قيم ومبادئ مجتمعنا، وواجب على رجال هذا المجتمع ومؤسساته أن "يعرّفوهم غلطهم". بالإضافة لذلك، يتعامل الوعي الجمعي السائد في مجتمعنا مع الجنس باعتباره مصدراً للعار نظرًا لكل التعقيدات المحيطة به. وبما أن النساء هنّ السبب في الخطيئة، فعليهن الاختباء والتصرّف بحذر طوال الوقت على أن يُنظر إليهن دائمًا كمتّهمات بارتكاب الخطيئة بل والتحريض عليها أيضاً. يظهر هذا جليًا في صياغة الأخبار المأخوذة عن البلاغات التي يتقدم بها المحامي أ. ف. الذي يستهدف ويتحرك بمنتهى الهمّة للإبلاغ عن كلّ مرأة مستهدفة، فيُقبض عليهن واحدة تلو الأخرى. يعكس المحتوى التحريضي والبلاغات الطريقة التي نظر بها هؤلاء الرجال للصورة، ربما تعكس خيالاتهم الجنسية، فجاء في أحد الأخبار(link is external) التي تزفّ خبر تقديم بلاغ جديد ضد إحدى النساء وتُدعى مي محمد أنها "تلتف بعلم الولايات المتحدة الاميركية على جسد عاري"، كيف علم المحامي أو اليوتيوبر أو كاتب الخبر أنها تلتف بالعلم على جسد عاري؟ أم كان هذا ما تخيّلوه عندما شاهدوا الصورة؟ هل هذا ما تمنّوه عند رؤية الصورة، أن تكون ملتفة بالعلم على جسد عاري؟ أتصور أن هؤلاء الرجال، سواء المحرّضين أو المبلّغين، قد استثاروا جنسيًا عندما شاهدوا الصور والفيديوهات، وشعروا بالعار تجاه هذه الاستثارة، ولم يعلموا ماذا يفعلون، فقاموا بإلقاء مسؤولية هوسهم على النساء اللاتي يقّدمن محتوى لا يتعاملن فيه مع أجسادهن كعبء كما هو مقرر لهن من قبل النظام الأبوي.

لم تحذُ نساء "التيك توك" حذوًا مخالفًا فقط للأنماط المقبولة اجتماعيًا للنساء بوجه عام في مصر، والتي تحتّم على النساء بذل كل المجهود اللازم من أجل عدم الظهور والاختفاء والمواراة، بل أيضًا خالفن النمط الأخلاقي المقبول لنساء طبقتهن الاجتماعية. وهنا يجب علينا تفكيك معنى الطبقة، فلقد أشار البعض أن من بين نساء "التيك توك" المحبوسات حاليًا مَن يمتلك قدراً من الاموال أو الممتلكات وبالتالي لسن جزءً من الطبقات الشعبية أو الوسطى. ولكن الطبقة لا تتحدد فقط  بالرأسمال المادي أو بقدر الأموال التي يمتلكها الشخص في لحظة معينة، فجزء آخر من تجسيدات الطبقة هو رأس المال الاجتماعي؛ قد تمتلك النساء القادمات من طبقات اجتماعية متوسطة أو فقيرة رأسمال اجتماعي متمثل في الأسرة أو أهل حيّهن السكني أو الأصدقاء الذين يقدّمون لهنّ الرفقة والدعم في حياتهن اليومية... بكلمات أخرى يتجسّد رأسمالهن الاجتماعي في شبكة علاقاتهن التي توفر لهن احتياجاتهن الاجتماعية، ولكن تختلف  قيمة الرأسمال الاجتماعي بناءً على الثروة المتوارثة في العائلة التي ينتمي لها الفرد والتي تعطيه شبكة علاقات لأشخاص ومؤسسات أكثر نفوذًا وسلطة في المجتمع، وعندما تكونين إبنةً لعائلة ذات ثروة متراكمة، تصبح شبكة العلاقات التي ترثينها هي الأخرى متراكمة على مدار أجيال وينتج عنها وضع اجتماعي يسمح بهوامش حرية أوسع، وبقدر أعلى من الدعم متى احتجتِ له.

ففي نفس الوقت الذي قُبض فيه على نساء "التيك توك"، قامت مجموعة من نساء الطبقات الوسطى العُليا والعُليا في المجتمع بإثارة قضية #المغتصب_أحمد_بسام_زكي. بدأ نشر شهادات مُجهلة عن وقائع عنف جنسي تتهم المغتصب أحمد زكي بالتحرش والاعتداء واغتصاب أكثر من مئة امرأة وذكرت الشهادات أنه هدّد ولاحق الكثير من النساء الكترونيًا أيضًا. جاء تفاعل النيابة العامة و "المجلس القومي للمرأة" على النقيض من تفاعلهم مع ما تعرّضت له نساء "التيك توك" ومن بينهن منة عبد العزيز. وفي مداخلة(link is external) هاتفية لرئيسة "المجلس القومي للمرأة" مع الإعلامي عمرو أديب قالت "تواصلت مع إحدى السيدات {الضحايا/الناجيات في قضية المغتصب أحمد زكي} (...) بنتحرك مع مكتب النائب العام، اذا البنات ماقدمتش بلاغات إلى هذه اللحظة، المجلس هايقدم بلاغ (...) بنشجع البنات، احنا واقفين معاهم وهانعمل كل المساندة القانونية، ومش عايزينهم يخافوا، نناشد البنات قدموا بلاغات" وتستطرد متجاهلة تمامًا ما تقوم به النيابة من استهداف وحبس لنساء "التيك توك"، "سيادة النائب العام مش هاقدر اقول قد ايه مساند لملف المرأة وقد ايه بيتحرك بمنتهى القوة" وتستكمل مطمئنة النساء الضحايا/ الناجيات في هذه القضية مؤكدة على "الحفاظ على بياناتهن ومعلوماتهن في سرية كاملة". ومع تقديم أول بلاغ ضد المغتصب أحمد زكي، قالت النيابة(link is external) لأول ناجية تتقدم بالشكوى "حتى لو كنتي في منتصف فعل جنسي مع الشخص دة وقررتي إنك مش عايزة تكمليه وهو أجبرك تكمليه بالغصب، فدة برضه اغتصاب". لأن نساء "التيك توك" لسنَ نساءً من طبقات اجتماعية عالية، وأهاليهن ليسوا من أصحاب النفوذ والسلطة، لم يُكلّف "المجلس القومي للمرأة" نفسه حتى بإصدار بيان للتعليق على الحملة الممنهجة التي تتصيدهن، ولم يوفر الدعم القانوني لأيّ منهن، ولم يلتفت المجلس لأي من الأصوات التي طالبته بدعم أولئك النساء، بل هلّ علينا بمنشور(link is external)على صفحاته الرسمية على انستجرام وفيسبوك يوعي فيه النساء بضرورة الانتباه للقوانين التي تعاقب على "الاعتداء على قيم الأسرة المصرية". وبالمثل، نكّلت النيابة العامة في بياناتها بكل النساء اللاتي قُبِض عليهن على خلفية المحتوى الذي يُقدمونه على "تيك توك"، وطُعن في شرفهن وسُمعتهن، باعتبار سمعة النساء هي أسهل طريق لتدميرهن اجتماعيًا.

في مجتمعنا، جزء من رأسمال النساء اللاتي بلا رأسمال مادي وبلا رأسمال اجتماعي ذو قيمة عالية هو "الشرف" الذي يمثل بدوره مفهومًا فضفاضًا وعبئًا على النساء حمله وحدهن، واذا تهاونت إحدانا في حمله يصبح على رجال عائلتها تقويمها ومعاقبتها، وإذا تهاون رجال عائلتها في هذه المهمة يقوم رجال شارعها أو حيّها بتنفيذها. والشرف عادةً ما يرتبط بالسمعة، والسمعة تُبنى من خلال أحكام المحيطين وكلامهم، وفي أغلب الأحيان ترتبط بسلوكنا كنساء وبمدى التزامنا بالفروض الاجتماعية الموضوعة على عاتقنا. وهنا أودّ الإشارة لمصطلح الـ مقايضة "trade off" الذي أطلقته عايدة سيف الدولة في سياق عملها على الحقوق والصحة الجنسية والانجابية في أعقاب "مؤتمر القاهرة للسكان والتنمية" سنة 1994، على عمليات التفاوض اليومية التي تقوم بها النساء حيثُ يتنازلن عن بعض من حقوقهن الجسدية في سبيل الحصول على حقوق أكثر محورية وأهمية بالنسبة لهن، و أعطت مثالًا على ذلك بقطعة القماش الملطخة بالدماء التي غالبًا ما تشهرها العرائس في صباحية زفافهن، وسألت لماذا تقبل النساء الخضوع لممارسة مهينة ومذلّة كتلك؟ وكانت إجابات النساء تتمحور حول حرية الحركة وحرية التواجد في الشارع في أوقات متأخرة من الليل التي تكفلها لهن هذه المقايضة. ومن هنا يمكننا رؤية "الشرف" و"السمعة" كرأسمال تمتلكه النساء - خاصةً نساء الطبقات الشعبية والوسطى - لمقايضة بعض من حقوقهن في مقابل الحصول على حقوق أخرى ربما تكون أكثر أهمية بالنسبة لهن. وبما أن السمعة والشرف ليسا مبنييّن على معطيات مادية أو محددة، فهما لا يمثلان رأس مال صلب يمكن للواحدةِ منا الاعتماد عليه، فسمعتنا هي دائمًا رهن لنظرة المحيطين بنا، ويمكن تشويهها بكلمة أو بادعاء، وبالتالي فالسمعة لا تمثل رأس مال يُمكن الاعتماد عليه بل هي رأسمال هش، وجوده يعطينا قدر من المكتسبات الاجتماعية، ومعارضة أمزجة المتحكمين فيه يجلب لنا العقاب.

كان الطعن في سمعة نساء "التيك توك" من أهمّ سمات التغطية الصحفية لقضاياهن التي عكفت على رسم شخصيات أولئك النسوة بعناية من خلال مداعبة كل ما هو مُحافظ واستثارة أي نمط سلوكي منبوذ اجتماعيًا وعلى النساء تجنّبه، فعلى سبيل المثال، ذُكر في أحد الأخبا(link is external)ر أن مودة الأدهم "انفصلت عن أسرتها منذ 3 سنوات"، وهي نفس النقطة التي أثارها ناصر حكاية في أحد فيديوهاته(link is external) قائلًا "بتقدم محتوى وبتقلع هدومها، وسايبة أهلها وراحت القاهرة عشان تشتغل في المجال دة".


الكلمات المفتاحية
ads