شيماء موسى تكتب: قصة نهاية صرح
شعرت أن الحزن والضعف يسيطر على جسدي، كأني كهلة مريضة،
على فراش الموت أسيرة، أنفاسي غير منتظمة، ولا أتمتع بأي مشهد من الجمال الذي يقبع
داخلي، أنا دوماً مرفوعة الرأس بكبريائي، أما اليوم أسقط من عليائي، اعتدت التطلع
في وجوه الجميع من أعلى، الآن أنا أتداعى وأتلاشى، قريبا أختفي دون أثر، وبهذا
تكون انتهت حياتي على يد بعض ممن اعتادوا أن يحجوا لمحرابي طمعًا وحبًّا،
يالسخرية الآلهة!
ما بكم ألا تستوعبون!
ما لي أراكم في ذهول؟
إذًا لا بد من التمهل والشرح لعقول البشر
الفانية.
في بداية اليوم حيث الصباح يعطي دفعة إبداع
وجمال لقلوب العشاق والشعراء، أشعة الشمس ترمي خيوطها على وجوه الرواد، من جاؤوا
لزيارة وتفحص مقتنياتي الثمينة ولفائفي، يطالعون كتبي ورسوماتي باهتمام وتركيز شديدين،
يتجولون بين أروقتي، يستمعون بإنصات واهتمام إلى محاضرات ومناقشات المتفلسفين، أما
عني فأنا لا أحب الفلاسفة، هم ينتقصون من جمال الأشياء، يلجؤون إلى تعريفات
وتصنيفات معقدة، لكنهم إضافة جيدة لي، البعض الآخر يدلفون إلى قاعات التشريح؛ حيث
غالينوس يشرع في تشريح الضفدعة، أعلن اليوم عن تشريح قط صغير، مات دهسًا تحت
الأقدام، مقدمًا للعلم هدية لمعرفة ما بداخله، ومن أجل هذه المناسبة الفريدة، تجمع
العديد داخل قاعة التشريح بانتظاره.
هناك من أبكر مع العصافير لزيارة الموسيون الجميل الذي
يجعلني دائما فخورة، تعبدًا واحترامًا لآلهة الجمال والفنون، التي لم أرَ بين
جدراني أجمل منها، وهنا في تلك القاعة التي جاء يفتحها إقليدس قبل شروق الشمس،
يشدو في إمتاع بشرح بديهيات ونظريات الهندسة؛ حيث يعلو صياح الجماهير والمتفرجين
ممن يتابعون الشرح بانبهار، وفي القاعة
الصغرى يجلس كلوديوس بطليموس يخبر الناس عن مواقع النجوم وأخبار الفلك، إليه
ينظرون بانبهار وصمت، كأنما يتعبدون، يجعلني فخورة بوجوده بين جناباتي، ويأتيني من
بعيد أصوات الشعراء الصادحة بأجمل القصائد من دراما، لملوكها أشيليوس وسفوكليوس
وغيرهم الذين يجعلون جدراني تشدو مع نغمات قوافيهم، كل هذا الجمال والإبداع من أعمالي، لكن البشر كما أبدعوا في بنائي أجادوا
في دماري وابتكار فنون لانتشار الحروب، ها هم يتصارعون بقربي منذ عدة شموس،
أشعر أن هذا الصراع لن ينتهي إلى خير، أحس بقرب النهاية، يصعب علي أن أعترف بهذا
ولكن لا حل أمام النيران التي تعدو ناحيتي، يا ليتني أملك أقدامًا أو عجلات حربية،
أُسرع بها بعيدًا، ها هم من يخافون على كنوزي، يحملون ما يستطيعون ويسارعون الى
ملجأ آمن، فلتحميكم الآلهة، لا تهتموا بالمنحوتات التي لا تقدر بثمن، أنتم بشر يحق
لكم الضعف والهزال، بنيتم ما لن تستطيعوا
حمله حتى لو أردتم، فقط أسرعوا بإنقاذ الكنوز من الكتب واللفائف، وأنت يا من تجري
لإنقاذ أنفاسك من الحريق، أنسيت أنك لم تتنفس سوى بين جدراني! أنقذ بعضًا من
مقتنياتي يا رجل! سأرشدك أنا للمساعدة بدفع هذا التمثال على رأسك ربما يرجع إليك
وعيك، ما هذا! لقد صمت الرجل وقبع في مكانه، هل نام أم ذهب عند الآلهة؟
في رعاية الآلهة أذهب، اليوم ينتهي كل شيء، يا كل معالمي،
إن انتهيت لن أترك أحدًا، النيران تبتلع اللفافات والكتب، سأجمع معي رُفاتي، سأحمي
ملذاتي بين إطلالي، حتى تحين لحظة العودة، سأقبع كالعنقاء في حرم كنوز القدماء، لن
أسمح بأن أمحي من خريطة الأفكار، فأنا صانع التاريخ سأظله بتوقيعي، ولو بعد حين.
ها هو القط الذي راح فداء للعلم تلتهمه النيران، الحرب
لم تمهله، أستودعكم الآلهة، هذه هي النهاية إذًا.
نهاية مكتبة الإسكندرية.