إيمان سمير تكتب: وحكت أمي
في ليلة شتاء قارس كنا نبحث أنا وأخي مع أمي عن وسائل
للتدفئة، فقد كان منزلنا القديم والحبيب أيضاً هو بيت عائلة والدي، فقد كان أقدم
شيء في الحي، ولكن أمي كانت تُشعرنا أننا بقصر فخم.
فكانت تقول دائماً: (دا بيت قديم من بتوع زمان مفيش زيه
الوقت).
حتى إنه كان يتسلل لنا شعور الشفقة على من كان عندهم
بيوت شاهقة جديدة كنا نقول في أنفسنا:
(ياحرام..
عايشين في بيوت جديدة، مش زي بيتنا، قديم من بتوع زمان، مفيش زيه الوقت)
برغم مساحته الواسعة والتي كانت تُزيد من برودة
أجسادنا وأرواحنا أحياناً إلا أننا كنا نحبه ونهابه، نهابه مهابة أجدادنا الذين
مروا منه وعليه، ولكن عشقنا لحكاياته لم يمنع غضبنا من سقفه، الذي صان العهد إلا
من رقعة كانت في حجرة النوم الرئيسية، كنا نسمع نقاط مياه الشتاء داخل طبق
بلاستيكي كبير كان مخصص سلفًا لتجميع الثياب بعد غسلها، وقد قمنا بتحريك السرير من
مكانه حتى استقر في منتصف الغرفة فضيق الخناق على ( وبور الجاز) الذي يوضع لبعث
الدفء كما كنا نضع فوقه هذه الصاجه الحديدية لتصنع أمي عليه ( أبو فروة)، كان أبي
فقط من يعجب بمذاقه، أما أنا وأمي وأخي لا يستوعب فمنا هذا الشيء الذي في المنتصف
بين البطاطس والبطاطا الحلوة، ولكننا لم نرفضه يوماً بل كنا نأكله دوماً حيث يبعث
الدفء في صدورنا، ونترك النار موقدة خافتة حتى مجيء أبي بعد منتصف الليل جائعًا
متجمد الأطراف، عله يبحث عن الدفء بجوارنا.
تصنع أمي هذا الكوخ اليدوي فوق السرير، كم كنا نعشقه،
نقوم بتجميع البطاطين والألحفة الثقيلة ونضع واحدة أسفلنا واثنين فوقنا ثم نثبت
أسفل أقدامنا بأخرى كبيرة وفي أعمدة السرير ونترك فتحة صغيرة للدخول والخروج، ما
أعذب هذا الشعور بالأمان والطمأنينة.
حتى يُذكر مشهدنا هذا أمي بطفولتها فتبدأ في سرد مفهوم
الدفء في صغرها.
كانوا في منطقة ريفية جدا، منزلهم نصفه غير مبني ( إذ
كيف يعيش الطيور) وحجرة نوم لا يدخلها إلا جدي أحياناً ونصفه الآخر حجرة كبيرة
جداً يملؤها هذا الفرن البلدي ، يقومون بإشعاله معظم الوقت للخبز ودس صواني متعددة
، المهم أن يعمل كثيراً في الشتاء، ومع آذان المغرب تنادي جدتي على أخوالي بصوتها الجاد
الذي تقلده أمي في سردها (المغرب.... دخلوا الصبي واقفلوا الباب بالرزة، والبنات
ما تتخدعوش بصوت ست على الباب دي النداهة).
تسترسل أمي السرد عن الفرن ودفئه وكم كان مصمم خصيصاً
بأن يكون ظهره بمساحة أكبر الأسِرَة حتى يصعدوا إليه جميعاً بعد تناول العشاء و..
و...
لقد توقف ذهني عند النداهة.
_
ماما إيه حكاية النداهة؟
تضحك أمي باستخاف واستهانة على سذاجة أسئلة الصغار
وخيالهم الواسع وخوفهم الغير مبرر والدائم.
_
ياحبيبتي كان كلام، المهم ........
أخي مقاطعاً:
_
أنا كمان عاوز أعرف حكاية النداهة ، و كيف كان
مجرد كلام فقط وجدتي كانت تخاف عليكم؟
_
بصوا انا مااعرفش الحقيقة بصراحة، بنت عمتي فريدة أهي لسه عايشة، والنداهة عملتها
معاها.
ننظر أنا وأخي في زعر وهلع برغم الإضاءة الخافتة تحت
الكهف المصطنع وبرغم أن أمي بيننا.
فأسأل.
وماذا صنعت النداهة بقريبتك؟
_
بعد ما طبخوا للناس اللي بيجمعوا ( البامية من الغيط) وجمعوا الأطباق الفارغة
بعدهم ، أذن الجامع للمغرب، عمتي كانت مستهترة، لم تقم بتنفيذ العادات والتقاليد
والأعراف،
لم تُدخل الصبي.. وجدتكم كانت تقول: لما الصبي يفضل بعد المغرب يتصاب حد في البيت.
(
ننكمش أنا وأخي في أحضان أمنا أكثر)
تُكمل.....
وبالفعل، في هذه الليلة زارتهم النداهة.
يسأل أخي برغم فزعه..
_
ما شكلها؟ وهل هي سيدة؟
_
النداهة ست ولكنها بتطلع من الرشاح
فأسأل..
إيه الرشاح؟
_
دا بحر كبير أوي، رابط بين حينا وثلاثة أحياء أخرى.
هيا ست جسمها حلو وشعرها ناعم وطويل..
(
نسترح في جلستنا أنا وأخي ونطمئن بعد أن علمنا بجمالها وطبيعيتها)
تُكمل .....
وعيونها واسعة وجميلة، بس وشها مشوه.
أُحكم قبضة يدي على يد أمي وأنظر لأخي راجيةً أن يكون
بخير.
تستطرد...
في يوم إهمال عمتي ، سمعوا هذا الطرق على الباب،
فهرعت إبنة عمتي لفتح الباب، وسمعت الطارقة تقول بصوتٍ حانِ : ( أنا غريبة
وسقعانة.. إفتحولي).
فتفتح إبنة عمتي وترى فتاة جميلة ولكن شعرها يغطي وجهها
وعندما همت لمحادثتها ، رفعت الفتاة شعرها وقربت أظافرها الطويلة التي هي حديدية الخِلقة من وجه إبنة عمتي و(
هبشت) وجهها واختفت.
وتركت ابنة عمتي غارقة في دماء وجهها، هذا غير رعبها مما
رأت .
في هذه الأثناء سمعنا صوت خارج الغرفة، فنظرت أنا وأخي
لبعضنا البعض والدموع في عيوننا والدماء متجمدة في عروقنا.
يزداد الصوت في الخارج، فصرخنا انا وأخي سويا قائلين:
(
النداهة).
حتى فُتح باب الغرفة أيضاً فزادت صرخاتنا، فإذا بأبي
يسأل في هلع ٍ......
_
ماذا بكم
فجرينا عليه هادمين الكوخ المصطنع واختبئنا تحت ذراعيه،
محتضنين بطنه، غير مبالين بحبات الكراميل المخصصة لنا في جيبه هذه المرة ،
مستمتعين بصوت أنفاسه الدافئة قائلين:
_
خايفين من النداهة.
ينظر أبي لأمي التي علت صوت ضحكاتها نظرة لوم لا تخلو من
العشق قائلاً:
برده النداهه؟ أعمل فيكي إيه؟
فاستراح أبي وجلس ونحن لا نزال نتشبث به، ثم قال:
لكل شخص نداهة، ولكل زمان نداهة...
أخي _ نداهة بدون رشاح؟
أبي باسماّ ،، حانياً....
_
نعم ، نداهة بدون رشاح ...
سوف تكبرون وتُنار وجوهكم كما تنار الأرض الخصبة بخضار
زروعها ويقل الخوف ولن ينتهي فكل إنسان مهما كان قوياً عنده من هو أقوى يخاف منه.
ولو كان أشجع الشجعان سيخاف من المجهول، المجهول هو
نداهة كل عصر ومكان، قد يكون المجهول داخل قلوبنا،، فلو ذكرنا الله واطمئنت
قلوبنا... ستنفق النداهة التي بداخلنا.
ثم نظر إلى أمي قائلاً:
غداً أريد حكاية أبو رجل مسلوخة،، لا أريد أن أسمع شيئًا عن سندريلا والثلاث نعجات ومثل هذه التفاهات.
تعلو ضحكاتنا.