غرامة عدم ارتداء الكمامة حلال أم حرام؟.. المُفتي يُجيب
الجمعة 08/يناير/2021 - 02:55 ص
شريف حمادة
أرسلت إحدى السيدات رسالة لدار الإفتاء المصرية، متسائلة حول رأي الشرع فى فرض الدولة غرامات مالية على مخالفي القرارات والتعليمات الرسمية التي تُلزم المواطنين بارتداء الكمامات في المواصلات والمؤسسات الحكومية وغيرها والأسواق والمحلات والبنوك والأماكن المزدحمة، في ظل انتشار وباء كورونا، فما حكم الشرع في تغريم من يخالف هذه القرارات؟.
من جانبه أكد الدكتور شوقي علام، مفتي الديار المصرية في رده الذي جاء تحت رقم 5125، أن الشريعة الإسلامية كلفت ولاة الأمر برعاية المحكومين عن طريق الحفاظ على المقاصد الكلية العليا، وأولها: حفظ النفس، وخولت لهم في سبيل تحقيق ذلك أن يسنوا القوانين واللوائح الملزمة التي تكفل ذلك، كما خولت لهم أيضًا وضع العقوبات وتنفيذها على من يخرق هذه القوانين أو يخالف تلك القرارات؛ لما في ترك المخالف دون عقوبة من التجرئة على المخالفة، وفي ذلك ما لا يخفى من ضياع مصالح العباد وانتشار الفساد؛ ولذلك جاء في الأثر: "إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن".
وأضاف مفتي مصر، أنه حتى يحصل الانضباط والإلتزام بوسائل الوقاية من الوباء في مواطنها المطلوبة، فقد ألزمت دول العالم ومنها مصر مواطنيها بارتداء الكمامة في مواطن التجمعات والمواصلات والأسواق والمحلات وغيرها مما هو مَظنّةٌ لانتشار العدوى، وأَوقَعت بالإضافة إلى ذلك غرامات مالية على المخالفين؛ حتى يحقق القانون الملزم غرضه وغايته في إلتزام المواطنين بوسائل الوقاية؛ للحفاظ على حياة الناس وسلامة المجتمع، وهذا من باب التعزيرات المالية، والتعزيرات هي: العقوبات التي لم يرد نص من الشارع ببيان مقدارها، وترك تقديرها لولاة الأمر، ووظيفتها: حماية الأموال والأخلاق والنظام العام.
وأضاف الدكتور شوقي علام، أن عقوبة التغريم المالي من التعزيرات التي أقرها الشرع الشريف، فعن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: «فِي كُلِّ إِبِلٍ سَائِمَةٍ؛ فِي كُلِّ أَرْبَعِينَ ابْنَةُ لَبُونٍ لَا تُفَرَّقُ إِبِلٌ عَنْ حِسَابِهَا، مَنْ أَعْطَاهَا مُؤْتَجِرًا فَلَهُ أَجْرُهَا، وَمَنْ مَنَعَهَا فَإِنَّا آخِذُوهَا مِنْهُ وَشَطْرَ إِبِلِهِ عَزْمَةً مِنْ عَزَمَاتِ رَبِّنَا، لَا يَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ مِنْهَا شَيْءٌ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود والنسائي في "السنن"، وابن خزيمة في "الصحيح"، والحاكم في "المستدرك"، وقال: حديث صحيح الإسناد.
وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، أنه سئل عن الثمر المعلق؟، فقال: «مَنْ أَصَابَ بِفِيهِ مِنْ ذِي حَاجَةٍ غَيْرَ مُتَّخِذٍ خُبْنَةً فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَمَنْ خَرَجَ بِشَيْءٍ مِنْهُ فَعَلَيْهِ غَرَامَةُ مِثْلَيْهِ وَالْعُقُوبَةُ» أخرجه الإمام أحمد في "المسند"، وأبو داود والنسائي وابن ماجه في "السنن"، والحاكم في "المستدرك".
وهذا هو الذي اعتمدته الدول الإسلامية في تشريعاتها وقوانينها؛ ومنها: قانون العقوبات المصري في مادته (22)، التي نصَّت على أن العقوبة بالغرامة إلزام للمحكوم عليه بأن يدفع إلى خزينة الحكومة المبلغ المقدَّر في الحكم، وبيَّن القانونُ حدودَ الغرامات المختلفة.
وأشار مفتي مصر إلى أن من منع من الفقهاء التعزيرَ بالمال: فإنما منعوه سدًّا لذريعة الاستيلاء على أموال الناس بالباطل والمكوس الظالمة، أو خوفًا من تزيد بعض القضاة في مقادير التعزيرات، أو منعوه في مواطن الشبهة، أو في أزمنة ازدياد الظلم.
فأوضح أن العلامة الشرنبلالي الحنفي في حاشيته على "درر الحكام" (2 75، ط. دار إحياء التراث): [ولا يفتى بهذا؛ لما فيه من تسليط الظلمة على أخذ مال الناس فيأكلونه] اهـ.
وقال الشيخ ابن تيمية الحنبلي في "الاختيارات الفقهية" (ص: 601، ط. دار المعرفة): [والتعزير بالمال سائغ إتلافًا وأخذًا، وهو جار على أصل أحمد؛ لأنه لم يختلف أصحابه أن العقوبات في الأموال غير منسوخة كلها، وقول الشيخ أبي محمد المقدسي: (ولا يجوز أخذ مال المعزَّر) فإشارة منه إلى ما يفعله الولاة الظلمة] اهـ.
وهذا كله إنما يظهر أثره في أنماط الحكم المركزي الفردي، وفي إناطة مقدار العقوبة باجتهاد القاضي دون نصوص قانونية أو قرارات ملزمة أو إرشادات معلومة مسبقًا، أما في الدولة المدنية الحديثة ذات المؤسسات المستقلة والسلطات المنفصلة المتكاملة وهيئات الرقابة: فالأمر يختلف؛ ذلك أن نظم الحكم في الدول الحديثة يرتبط فيها الدعم الحكومي بالضرائب والغرامات، وتُوفَّرُ فيها الخدمات والمرافق العامة والتأمين الصحي للمواطنين في مقابل ما يُستَقْطَعُ مِن دُخولهم المادية، وتستقل فيها السلطات: تشريعيةً، وقضائيةً، وتنفيذيةً؛ بما يؤدي إلى انتفاء هذه المخاوف أو تقليلها.
وقال مفتي مصر، أنه بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فكما جعل الشرع من سلطة الحكام وضع القوانين والقرارات والتعليمات الملزمة في سبيل تحقيق ما كُلِّفوا به من تحقيق المقاصد الشرعية العليا وضبط النظام العام، فقد خول لهم أيضًا وضع العقوبات الملائمة على مخالفة القوانين حسبما يترتب على خرقها من ضرر؛ حتى يضمن تنفيذها والتزام الناس بها، ويكفل تحقيق مسؤوليتهم في رعاية مصالح المحكومين، والغراماتُ المالية هي من باب التعازير التي لم يرد بها نص في الشرع، ومرجع تقديرها إلى السلطة التشريعية، وقد أقرها الشرع الشريف، وهو الذي اعتمدته الدول الإسلامية في قوانينها قديمًا وحديثًا ومنها مصر، والذين منعوه من الفقهاء إنما أرادوا بمنعه سد ذريعة الاستيلاء على أموال الناس بالباطل، وهذا يظهر أثره في نظم الحكم القديمة وعند التقدير الفردي المطلق للغرامة دون نصوص قانونية موجهة، أما في نظام الحكم الحديث ودولة المؤسسات، التي ترتبط فيها الخدمات والدعم والتأمين الصحي بالضرائب والغرامات، وتستقل فيه السلطات: فالأمر مختلف؛ إذ لا يصبح التغريم مكسًا، ولا تعود أخذ المال ظلمًا.