أم اليتيم خير من يستحق التكريم
الجمعة 22/أكتوبر/2021 - 09:54 م
أم اليتيم هي التي عانت وصبرت وعملت وسالت دموعها على وسادتها في ظلام ليلها، ولكنها أبت أن تعلن هزيمتها، وأبت أن تشكو همها لأحد غير خالقها.
استيقظت من نومها المتقطع المصحوب بالآهات وترفع يديها إلى ربها قائلة: "اللهم أعطني القوة وامنحني الصبر لأجعل من أولادي الأيتام نبراسًا يضيء الطريق لمن هم في حالهم، وحتى نزاحم الحبيب محمدًا صلى الله عليه وسلم في جنتك يا الله".
عزمت وتوكلت على الله وبدأت رحلة تربية وتعليم أيتامها.
في درسها الأول عقدت اجتماعًا مع الأيتام لتخبرهم أن موت أبيهم أبدًا لن يحطم أحلامهم، أو يثبط من عزيمتهم، بل يزيد قوتهم وعزيمتهم، والسعي إلى تحقيق أحلامهم؛ حتى يكون في قبره سعيدًا مسرورًا.
أم الأيتام تطلب من الأبناء ألا يجعلوا أحدًا يقول في يوم من الأيام "لو كان أبوهم على قيد الحياة لكانت تربيتهم أفضل".
ذرفت دموع الأبناء حنينًا لأبيهم، وحبست أم اليتيم دموعها، وأعلنت انتصارها في يومها الأول.
بدأت الرحلة مع الأيتام وبصوت هامس: من يرغب أن يكون طبيبًا ومن مهندسًا ومن محاميًا؟ وفي صوت واحد كان رد الأيتام: "نرغب جميعًا أن نكون أبناءً صالحين، وطموحنا أن نفيد المجتمع ومن حولنا".
في المرحلة الابتدائية جاء المدرس معلنًا تطوعه لإعطاء أولادها دروس تقوية مجانية، ولكنها أبت وشكرت وأعلنت أن أبناءها ليسوا في حاجة إلى دروس، وقالت له: "ابحث عمن يحتاج إلى ذلك".
تفوقهم جعلهم حديث المدينة كلها، بل كثيرًا ما تندر البعض بأن اليتيم تفوق على ابن الثري، وجاء وقت كبيرهم ليرتدي البالطو الأبيض ويعلن عن التحاقه بكلية الطب.
لم تفرح الأم ولم تزغرد مثل النساء، ومن جاء مباركًا كانت تخبره بأن المباركة في تخرجهم جميعًا.. المشوار ما زال طويلًا، ولكن عندما تخلو إلى نفسها تسجد لله شاكرة، وتهلل وتكبر حامدة الله على نعمه.
وتمر الأيام ويدخل الثاني كلية الهندسة، وجاء المهنئون معبرين عن سعادتهم بنجاح الابن الثاني ودخوله الهندسة وتأتي بالشربات.
وتهمس صديقة مقربة منها: "اقتربتي من الراحة يا أم الدكتور"، تهمس لها: "المشوار طويل يا صديقتي، الليل لم ينتهِ بعد، وعملي لم يتوقف، وآخر العنقود والحقوق".
وبعد سنوات من العمل والكد والسهر تخرج الأول في كلية الطب ليصبح طبيبًا ويهرول لتقبيل أقدام أمه، ولأول مرة تهزمها دموعها وتتساقط وهي تهنئ ولدها: "مبروك يا دكتور".
آخر العنقود وحلم الحقوق
والتحق آخر العنقود أخيرًا بكلية الحقوق، وهنا تعلن أم الأيتام عن اقتراب تحقيق حلمها، وتذهب إلى قبر زوجها.
وبدموع ساخنة لسعت وجهها الذي ظهرت عليه أعراض الشيخوخة، قالت: "تركتني لتعرف هل سوف أنجح في تحقيق حلمك أو لا؟
اعلم أنك رحلت عن الدنيا تاركًا خلفك زوجة ومحبة وأمًّا سوف تكمل مشوارك.
أعلم أن لكل أجل كتابًا.
أعلم أنك سعيد الآن بنجاح أولادك.
كانت نطفتهم الحلال لم يرفع أحدهم صوته في يوم عليَّ، لم يضربني لم يطردني إلى الشارع، لم يرفض لي طلبًا، كانوا نعم الأبناء الطائعين الأوفياء.
فخر لك ولي أنهم زينة الحياة الدنيا، ولكن غيابك عنا أثر فينا.
نعم أنا أشتاق إلى سماع كلماتك الطيبة، جاء الكثير يطلب مني الزواج.
ولكن كيف أتزوج غيرك وأجعل لأولادي أبًا غيرك؟
وأقسمت بالذي رفع السماء أن لا يرى شيئًا مني سواك في الجنة إن شاء الله.
لا تقلق نحن بخير وسوف نكمل المشوار بعد الدكتور، الثاني مهندس، والثالث محامٍ.
وأخبر رسولنا الحبيب أني سوف أزاحمه في الجنة إن شاء الله أنا أم اليتيم.
وأنا أقولها:
من ربت وتفوقت وخرّجت إلى المجتمع جيلًا يخدم وطنه بكل حب واعتزاز.
من حاربت شيطانها وانتصرت عليه، من قتلت شهوتها، من عملت وسهرت وحرمت نفسها من متع الحياة؛ من أجل أولادها، تحية إجلال وتقدير واحترام، نرفع لك القبعة، وننحني لك يا أم اليتيم.
ونكرمك فأنت خير من يستحق التكريم.