الأحد 19 مايو 2024 الموافق 11 ذو القعدة 1445
رئيس مجلس الإدارة
خالد جودة
ads
رئيس مجلس الاداره
خالد جوده

في الفن والتلقي.. (من الرؤية إلى الرؤيا).. صور

الإثنين 09/أغسطس/2021 - 05:40 م
هير نيوز

الرفيقة الأولى الابنةُ والأخت والعاشقة الوفيَّةُ والحنونة، الإلهة الطيبةُ، نَبتَةُ الصبار الخالدة وزهرة عباد الشمس، شجرة الرمان وفرع الصفصاف المتدلي في النهر وعروس النهر، الطبيعة أمًّا والبحر سيدةً خبيرةً والفردوس أميرةً من الأساطير.

من أين نبدأ.. نخلع أبداننا وندخل في هذا المدى الممتد عبر حقول الألوان المختلفة الأنيقة البالغة الأنوثة إذا حق لنا هذا التعبير ونشاهد وناعين برفق وهدوء رحلة الحواس الغُفل في عالم مليئ بالخيال وسحر الطبيعة والحلم، نرى توحد الأرواح وامتزاجَها وتماثلَ الأشكالِ وحيويتَها وتناغمَ تفاصيلها المعبرة الموحية في رقَّةٍ ودِعَةٍ.

فمن ضربة فرشاة مخلصة فوق السطح الظمآن، ومن هيجان الرغبة في الألوان ومن صدق الفكرة في الخاطر والوجدان من فيض الروح الطوافة وتشظي الحس الهيمان تتكشفُ ذراتُ اللون (البقع اللونية المتناثرة) عن جوهرٍ فردٍ مُتَّقدٍ ممتلئٍ حالمٍ أرضُهُ سماءٌ وسماؤهُ أرضٌ، يتجلَّى في الحلم تجليه في اليقظة. يدورُ في فلك يمتد ويتمدد بتمدد الفكرة واتساع دلالاتها أثناء رحلة خلق الأثر ثم أثناء رحلة هذا الأثر الفني مع المتلقي عبر الزمان والمكان.

حالٌ من الوجد الصوفي يدل عليها ذوبان اللون والشكل في ساحة اللوحة المقدسة تتقاسمها منحنياتٌ واسعة وضيقةٌ تشبه في انسيابها وتدفقها جريانَ شُعَبِ النهر، فوضويةً كثيرة لا منتهية وهي بالفعل كدذلك إلا أنها والحال هكذا تضج بالحياة والأناقة حلما ويقظة كما تضج الضفاف، ولفظة "الحلم" هنا أعني بها الخيال سيدُ النِّعَمِ وجوهرةُ العَطايا والذي يمثل الوجد والتطلع والشوق إلى السكينة والاطمئنان، وأعني بلفظة "يقظة" المعرفةَ والتي يدل عليها ويمثلها رمز الكتاب في بعض اللوحات، فبالرغم من العيون المسبلة الناعسة ونظيراتها اليقظة المفتوحة إلا أن عينا مندهشة مفتوحة في لوحة تضم ثلاث فتيات يقرأن كتاب (قواعد العشق الأربعون) اثنتان منهما مغمضتا العينين والثالثة مفتوحة العين يقظة ملؤها الصحو والدهشة.. دهشة الكشف والمعرفة، فالنوم واليقظة يمتزجان ويتداخلان كما يتداخل وينصهر الخيال والواقع في مُخيلة الفنانة وذهنها فينتجان هذه الأعمال الفنيةَ الصادقة.

ثمة ملاحظة طريفة هنا، ألا ترى معي أيها الرائي المتأمل في اللوحات أن النوم واليقظة يشيران إلى دورة حياة (الشكل/الجسد) بين الحركة والثبات، فاليقظة حركة والنوم ثبات وما بينهما مقام الحلم الذي هو الفضاء الأثيري الذي تسبح فيه طمأنينةُ ومخاوفُ الإنسان وتطلُّعاتُهُ، ووحده الفنان يحرس هذه الأحلام ويغذيها ويحيي فيها المفارقة مع الحياة سلبا وإيجابًا ويترجمها إلى أفكارٍ فنيةٍ لمعالجة الواقع بل ولإنتاج العالم من جديد.


كل ما يدل على البهجة والحلم والامتنان للوجود ممثلا في المرأة  وفي فيض الطاقة الروحية والحسية التي تملأ ذرات هذا الوجود هو مُكَوِّنٌ من مكونات لوحات معرض الفنانة المصرية حنان يوسف.. المقام بقاعة بيكاسو بالزمالك/ مصر.

وكما شكَّلَ الإلهُ الخالقُ ولهُ المَثَلُ الأعلى الصلصالَ الأوَّلَ بحب وأبويةٍ وحنوٍّ ونفخ فيه من روحه فأحياهُ، مزجتْ الفنانةُ ألوانَها بحبٍّ وأمومةٍ بالغَيْنِ ونفختْ في الريشة من روحها ووعيها وتأملت سطح لوحتها بشجن وفرح كأنه وجه رضيعها النائم فتَكَشَّفَ لها الشكلُ والمعنى حياةً تنبضُ على أرض اللوحة البكر ساعيةً جاريةً في نعيم الطبيعة تحلم وتصحو وتحتفل بالحياة.


إن هذه الطمأنينة وهذا السلام اللذين نلمسُ أثرَهُما في مفرداتِ العمل ليسا واقعيين بشكلٍ أكيد وليسا مُتَخَيَّليْن بشكل قاطع أيضا، ولكنهما على الأرجح نتيجة لصراع عميق ومؤلم مع معطيات الحياة الإيجابية والسالبة والتي تؤثر في الفنان بقدر ما تؤثر في النبي والمخلص والصوفي، إنها محاولة صادقة لإعادة إعمار حياة الإنسان الباطنية والظاهرية وقد خلت من الحلم والامتنان وغلفها والجحودُ والقسوةُ، وإحياءٌ مرهف لفضيلة الإحساس بالنعم وتذوق الجمال فينا وفي كل ما يحيط بنا، فما يقف وراء هذه الأعمال المحلقة فوق الواقع لهو حنين جارف إلى البراءة والمعرفة الوجدية، وما هذا التناغم الفني اللافت وهذا الامتنان العميق في أحد تجليات الدلالة إلا نتيجة الصراع مع الفوضى العارمة التي تملأ حياتنا أفرادا وجماعات، ولكم نحن في أمس الحاجة وقد أمكننا أن نُعجبَ ونستغرقَ في تأمل عمل جميل أو فكرة آسرة لأن نستحصد من هذا الجميل كل ما أمكننا حصاده وهذا يعني أننا نستدعي ونستنجد بكل مداركنا ومعارفنا وتجاربنا بعد أن خلعناها على أعتاب المحراب أقصد اللوحات ودخلنا في المشاهدة والتأمل طاهرين حتى من أبداننا وزوائدنا، أقول نسترجع كل هذا أثناء إبداء رأينا نسترجع خبراتنا وعمرنا كلَّهُ ونتوجه صوب العمل وتفاصيله يستحصدُ كلٌّ منا الآخرَ بحبٍّ وندِّيَةٍ وتفاهم.


فالعلاقة أزلية بين المرأة والطبيعة، بين الحلم والغرق، بين الوجد والرقص بين النعمة والامتنان، وما توحي به الأعمال في تلقيها الأولي لهو حالة رومانسية تحتفل بالحياة ونعمة الوجود؛ لكن نظرة فاحصة وصادقة التأمل لقادرة على أن تكشف لنا أفقا لا متناهٍ من الأحداث والأصوات ولو أخلصنا في التأمل والإنصات لأمكننا أن نسمع رنين الموسيقى البعيد الذي يأتي من حركة الخطوط واحتكاكها بالسطح، ومن اتحاد الكتلة اللونية الهائمة وتشتتها، من خفقان أجنحة الطير، ومن همس يحدثه حفيفُ الثوب الزاهي، من وشوشة الشال الأبيض للزَّهْر الدمويّ القاني، نرى مكونات العمل وهي تتآلف وتتناغم (كتلةً وإيقاعا) كأنها قصيدةٌ تلقى على الملأين الحالم واليقظان كلماتها اللون والخط والشكل وإيقاعها العرفان والبهجة، تصنع مفارقتها الخاصة مع كل قراءة ومشاهدة.

العيون المغمضة تثير فينا الابتسام والتشوق والتطلع لكنها تلهب ظمأنا وتعطشنا لبلوغ هذه الحال وتوقظ فينا تحديا كبيرا وبليغا يتلخص في طرح السؤال القاسي على أنفسنا: وأين نحن من هذا السلام وهذه الطمأنينة..؟ ثم وفي لحظة السؤال يولد الحس والوعي الجديدان اللذان يزرعهما العمل الصادق داخل متلقيه على تعدد فئات هذا المتلقي واختلاف ثقافته.

الدوائر وما تحمله من دلالات واسعة فلسفية وحياتية وما تمثله الدائرة بشكل خاص في الأدبيات الصوفية والعرفانية يثير لدينا سؤال حول الرؤى الميتافيزيقة للفنانة ووجود دائرة مكررة تحت إحدى العينين يوحي إليّ بأن  الأمر هنا هو تحول في الدلالة الوظيفية، وحيث إن المقام مقام وجد وصلاة فإن الدائرة هنا تدل على الرؤيا والبصيرة حيث يغفو الظاهر المحسوس (العين/الرؤية) ليستيقظ الباطن المتأمل (البصيرة/الرؤيا) هذا من ناحية، كما أنها من جهةٍ أخرى تفسر حسب التصور الصوفي عند الحلاج (الحرمة) أو القداسة قداسة الواقف والموقف، أو الحقيقة التي هي جسد رمزي ساكن لإيقاع متحرك، وهي أيضا الدائرة مرايا وانعكاسات وموضوعات وأحلام تتحلق في فضاء اللوحات مشكلة اللغز الذي يستلزمه الحلم أو المقام، وأيضا وجود الطير وما  يرمز إليه في المخيلة والذاكرة التاريخية والأدبيات الدينية والثقافات الشعبية، فوجود الطير وتعدد أنواعه في اللوحات يشير إلى تعدد الرمز وتمدد دلالاته فالطير مرة صديق الحقل ومرةً هو الحرية وأخرى خفقان قلب الأنثى وثالثة هو الروح المرفرف.

والفتيات الحسان اللواتي يملأن اللوحات فرادى ومثنى وثلاث، وسبعٌ كأنهنَّ الأنجم السابحات أو الياقوت والمرجان ما هُنَّ إلّا روح الفنانة وقد تشظت في لحظة الخلق الفنية إلى ذرات وجواهر يركضن في مَرْج اللوحة الزاهي.

كذلك فإن لوحة الأم مع طفلها، والأم ترمز للراحة الوجودية والطفل يرمز للبراءة (عند كارل غوستاف يونج)، وعلى هذا فإن اللوحةَ تعطينا تصورا عن الأم التي تحيا داخل الفنانة والنظرة المتبادلة مع طفلها الجالس على ركبتيها متطلعا إليها في استسلام وبراءة وتعلق هى ذاتها نظرة الرسامة الحانية إلى العالم وهي أيضا شوقها العميق الذي هو شوق البشرية إلى البراءة والراحة الوجودية.

ويأتي سؤال المعرفة وارتباطها  على مدار اللوحات باليقظة والحلم (الواقع والخيال) هذه الثنائية التي هي أصل الصراع الذي يقوم عليه العالم.. العالم الذي رأت الفنانة أنه مليءٌ بالنعم نعمة الوجود ونعمة المعرفة ونعمة الفن التي يمكنها أن تخلق السعادة وتمنحنا السلام من خلال مجموعة من اللوحات  تعالج تطلعات وأشواق الإنسان/المرأة إلى الحرية والسعادة وتحيي الجانب المضيءَ في الإنسان وتضيء المعتم وتحدّثُ بنور الطبيعة ونعِيمِها.

اقرأ أيضًا..

ads
ads