دكتورة فاطمة سيد أحمد تكتب: أنا والرائدة أمينة السعيد
الخميس 01/أبريل/2021 - 08:48 م
كانت لي ذكريات مع الكاتبة الكبيرة قدرًا ومقامًا الأستاذة أمينة السعيد لا تنسى، فهي معلمتي منذ صباي وحتى تقابلنا وجهًا لوجه في بداية مشواري الصحفى فعلمتنى الكثير وقد قالت لي إن شخصيتك القوية هى التى جعلتك تميلين إلى أمينة السعيد.
بدأتُ معرفتي بالأستاذة وأنا فى فترة المراهقة؛ حيث كان يسيطر علىّ التمرد من عادات وتقاليد أجدها تقف عثرة فى وجه النساء كبرت أو صغرت كان تمردى يصل إلى درجة لماذا أخى الذى يكبرنى بعامين فى مساء يوم الخميس يسمح له بالوقوف وسط أصحابه يتسامرون ويضحكون ويمارسون حريتهم على (قمة) الشارع وأنا أحرم فيقال لى هو ولد فيجن جنونى، وكن خمس شقيقات لم تعترض إحداهن يومًا على هذا ولا حتى أى نوع من المقارنة، ورأيت ضالتى فى مقالات السيدة العظيمة «أمينة» التي كانت تغذى فى حرية المرأة بشرط أن تحصن نفسها علميّا وأخلاقيّا، وكانت مجلة حواء التى تكتب فيها الأستاذة هى نبراسى، وكانت المجلة ذائعة الصيت وقتذاك، وكنت أحصل عليها بنظام التأجير من أحد المحلات المخصصة لذلك بمنطقة سكنى حى بحرى بالإسكندرية؛ لأن مصروفى لا يقدر على تحمّل اقتنائها أسبوعيّا، ومع بداية مرحلتى الثانوية فى السبعينيات كانت قضية الحجاب قد بدأت بين مؤيد ورافض، ومع أن نسبة الرافضين لهذا الغزو الذي أعتبره ثقافيّا قبل منه دينيّا قد تصل إلى %90، ومع ذلك كان الـ%10 يحشدون أصواتهم ويصبون اللعنات على كل رافض، وفى طابور المدرسة الصباحي أمسك وكيل المدرسة بالميكروفون وكان مدرس لغة عربية وصب لعناته على معلمتى وأستاذتى لأنها ضد الحجاب والتى حتى هذا التاريخ لم أكن شرفت بمعرفتها، وقال الأستاذ المنفعل (لاهى بأمينة على بناتنا ولا نحن بسعداء بها)، عند ذلك انفجرتُ فى بكاء حاد وأخذ صوتى يعلو حتى خرجتُ من الطابور جريًا إلى الفصل فى وسط اندهاش الزميلات، وبعد انتهاء الطابور بحث عنّى هذا الأستاذ وأخذ يعنفنى ويتهمنى بأننى كافرة مثل «أمينة السعيد» وأنه مستاء من هذه المَدرسة التى لا توجد بها طالبة واحدة محجبة والزى المدرسى كله قصير وأنه لو كان أبًا لأى منا ما سمح لنا بهذا الانحلال، ولَم يكتفِ بل توعدنى إذا حدث هذا سوف يُستدعى ولى أمرى..
انتهى هذا الموقف وتمر الأيام وإذا بى وجهًا لوجه أمام محبوبتى التى أنا بها أمينة على مبادئها وسعيدة بلقائها وليذهب مدرس الثانوية إلى الجحيم، كان هذا فى الثمانينيات وكان ثالث موضوع صحفى لى عن قضية (الطلاق الغيابى) وما تعانيه المرأة من ورائه، وقد أعجبت الفكرة أستاذ «مفيد فوزى» أول رئيس تحرير أعمل تحت قيادته، وهو مَن قدّمنى للحياة الصحفية بصفتى (باحثة) تجيد مهنة الصحافة، وكان فى لقائه الأسبوعى للقناة الثالثة مع الأستاذ «محمد حمودة» يتحدث عنّى وعن بعض الزملاء الذين لهم موضوعات بمجلة «صباح الخير»، ولكنه دومًا كان يقدمني بالباحثة.. وعن الأستاذ «مفيد» حديث آخر، فأنا أدين له بالكثير، لقد آمن بموهبتي الصحفية وهو لا يعرفني وقدمنى بأول موضوع صحفى على غلاف مجلتي الحبيبة الصبوحة..
المهم أننى رأيتُ أنه لا يمكن لى أن أقوم بعمل تحقيق عن قضية المرأة ولا تكون نصيرتها صاحبة الرأى الأول فيه، وكان اسمى قد عُرف بعد موضوعين على الغلاف كل منهما جزآن، أى بمثابة أربعة أعداد، واتصلت بها عبر التليفون الأرضى بدار الهلال وحتى هذا الوقت كان هو الوسيلة الوحيدة، بعدها نذهب للمصدر وفى يدنا المسجل الضمانة فى هذا الوقت لحماية الصحفي، وعندما تحادثت مع أستاذتي وكانت تشغل منصب رئيس مجلس إدارة دار الهلال وحتى الآن لم يأتِ على رأس أى مؤسّسة قومية رئيسة مجلس إدارة قبلها أو بعدها، كانت أستاذة بعلم الوصول الله عليها..
عندما قلتُ لها حضرتك أنا اسمى.. ردت علىّ «عارفاكى، قريت موضوعاتك، تعالى»، جريت من روزا إلى الهلال سوف أقابل محبوبتى (الأستاذة أمينة)، كانت شخصية قوية تقرأ الأشخاص بسرعة وذكاء، وقالت لى أنا معجبة بك ولى ود أشوفك مثل ما أنتى تريدى تشوفينى لأن موضوعاتك تعجبنى.. لم تسعنى الدنيا كلها أنا معجبة بى صاحبة الريادة الصحفية والتنويرية، ما أسعدنى، كيف قال ذاك المدرس أننا غير سعداء؟ هذه الخلايا الإخوانية التى لم يكن مجتمعنا اكتشفها بعد..
ذهبت وفى يدي مسجلي ومازلت أحتفظ بصوت أستاذتي فى هذه الشرائط حتى يومنا هذا.. سألتنى لماذا اخترتِ هذه القضية من بين قضايا المرأة العديدة، وأثنت على أن اختيارى الذى جاء نتيجة احتكاك مباشر بفتيات صغيرات تعرضن لهذا الغبن من الرجل، وبالفعل أضافت أستاذتي إلى أن المرأة الكبيرة تعاني أضعاف الصغيرة التى يمكنها تعويض ما فاتها وإن كان المجتمع لن يرحمها وهى المجني عليها.. وروت لى حكاية «سعدية» التى تناولت الكاتبة «حُسن شاه» قضيتها بعد استئذان الأستاذة «أمينة» لتكون ضمن أحداث فيلم (أريد حلا)، ولكن قصة «سعدية» كانت أحزن وأعقد مما جاء فى الفيلم؛ لأن «سعدية» كانت وقتها على قيد الحياة ولَم يريدوا الأستاذة وكاتبة الأحداث أن يصيب «سعدية» أى ألم إذا رأت حياتها عبر فيلم وهى المرأة التى لا تقرأ ولا تكتب وربما فهمت المعنى بأنه تشهير بها خاصة هى التى لجأت للأستاذة «أمينة» لتساعدها عبر باب كانت تقوم فيه بحل مشاكل القرّاء من النساء.. «سعدية» وهو الاسم الحقيقى للمرأة قصتها كما روتها لى الأستاذة «أمينة» وكتبته على لسانها فى الموضوع أن سعدية امرأة تزوجت ولَم تنجب فطلقها زوجها، ورشحها بعض المعارف لأحد الموظفين الذي توفيت زوجته وتركت له ثلاثة أولاد بنتين وولد فى مراحل تعليم ابتدائى وإعدادى وتزوجها الرجل الذى رفضته الكثيرات لعدم تحملهن عناء تربية أولاده، ولكن «سعدية» قبلت وعاشت تخدم تلك الأسرة وكان الزوج قد وصل إلى مراحل ترقى فى عمله حتى صار (مديرًا) وكان هذا بفضل «سعدية» التى حملت عنه أعباء تربية أولاده الذين تخرّجوا جميعًا فى الجامعة، وعند ذلك طلب الأبناء من الأب حرمان سعدية من الميراث حتى لا تشاركهم، وقد قبل هذا الرجل اللعين طلبهم وقد اشتد عليه المرض ولَم يجد بجانبه سوى «سعدية»، فالأبناء كل على ليلاه ومع الضغط المتزايد منهم طلقها غيابيّا واتفق مع أولاده بأن يكون هذا سرّا بينه وبينهم حتى تقوم «سعدية» بخدمته، وطوال ما كانت تقوم سعدية برعايته على أكمل وجه كانت تسمع منه كلمة واحدة لا يغيرها (سامحينى يا سعدية) فكانت ترد سعدية انت ماعملتش فىّ حاجة وحشة؟ فيصمت ولا يبوح لها أنه طلقها من سنوات ويحتفظ بها هو وأولاده ليستنزفوا عطاءها لآخر وقت ممكن.. استمر مرض هذا الرجل خمس سنوات ثم مات، وإذ بجحود هؤلاء مَن قامت بتربيتهم ورعايتهم يطلبون منها ترك المنزل وأنه ليس لها أى حقوق عندهم..
وهنا قالت سعدية إزّاى أنا لى حقوق عن زوجى وهذا البيت سأقيم فيه حتى الموت.. فشهروا فى وجهها قسيمة طلاقها غيابيّا منذ خمس سنوات وأنها منذ سنوات لم تكن زوجة من وجهة نظرهم بل خادمة لوالدهم، قالت لهم طيب كنتوا اطلبوا منّى التنازل عن الميراث وليس طلاقًا دون علمى كان يمكننى الحصول على معاش الرجل الذى خدمته وخدمتكم وهو لن ينفع أن يكون من نصيبكم، ردّوا عليها ونضمن منين إنك لن ترضى بترك ميراثك من أبينا إلا إذا كنتِ لم تصيرى زوجة وليس لك أى حقوق.. قذف هؤلاء الجاحدون بالمرأة التى ربتهم إلى الشارع، فأقاربها أغلبهم توفاهم الله وأبناؤهم لا يعرفونها، فقد كان الزوج يستأثر بوجودها ولا يتركها تزور الأهل حتى تظل خادمة له ولأولاده.. وجاءت «سعدية» للأستاذة «أمينة» لتجد لها حلا بعد أن قال لها أولاد الحلال أنها تحل مشاكل عويصة للنساء، ولكن الأستاذة صُدمت بالقوانين التى تسلب حق هذه المرأة وأكثر منها نظرة (رجال الدين) ولَم يكن أمامها إلا تأمين معيشة هذه المرأة من عمل تعيش منه فأوجدت لهاعمل فراشة بإحدى المدارس لأن سعدية غير متعلمة ولا تحمل مهارة أى مهنة.. وكانت الأستاذة وهى تروى لى حكاية سعدية تقف برهة لتردد (قال سامحينى يا سعدية قال تروح فين من ربنا) وقالت لى لازم الطلاق الغيابى ده يُلغى..
وبعد انتهاء قصة سعدية قالت لى أستاذتى لازم يا فاطمة نأخد رأى شيوخ دينا الإسلامى بس يكونوا أصحاب فكر تنويرى علشان يساعدونا أنه لا يكون هناك (سعديات أخريات).. وهللتُ فرحًا الأستاذة تضيف لموضوعى وقالت لى خذى هذا تليفون الشيخ «الغزالى» وكان يحسب على الفكر المتجدد التنويرى، وقالت اسأليه وعودى لى مرّة أخرى قوليلى قال إيه؟ فرحتُ جدّا وبعد مغادرتى مكتبها ذهبت لـ«روزاليوسف» على بضعة أمتار قليلة من دار الهلال وقمتُ بالاتصال بالرقم فرد علىّ صوت ما فطلبت منه التحدث مع (الشيخ الغزالى) بعد أن قال لى المتحدث أنه سكرتيره، ثم رد علىّ صوت آخر وقور وسألنى ماهو الموضوع الذى تريدين فيه الشيخ؟ فذكرته له فإذا به يرد ويقول الرقم خطأ، فقلت له بس حضرتك مَن تحدّث معى من قبل قال لى حاضر الشيخ معكى فكيف يكون الرقم خطأ؟! فقال هو ما يعرفش وأغلق الخط..
وذهبتُ فى اليوم التالى إلى أستاذتى وهذه المرّة دون ميعاد مسبق بالتليفون، فقد قالت لى على مواعيدها وأنى فى أى وقت أحضر وأقابلها سواء لعمل أو لا، فهى تريد أن ترانى باستمرار، المهم قابلتها ورويت لها ما حدث وإن الرقم طلع خطأ.. فقالت لى لا مش غلط هو الشيخ مقتنع بأحقية الرجل فى الطلاق الغيابى، ولذلك أنكر نفسه منك، وقالت كنت مثلك يا فاطمة أريد معرفة رأى شيوخ التنوير فى هذه القضايا ولكنهم (تنويريين بالقطعة) وأنا أرى أنكِ تكتبين أن الشيخ عندما عرف القضية التى تريدين أخذ رأيه فيها أنكر نفسه، وعليه تحمّل مسئولية (تنويره الظاهرى) وأن القضايا الشائكة يهربون من معالجتها، وبالفعل نزل الموضوع وتوقعنا ثلاثتنا الأستاذة والأستاذ مفيد وأنا أن يكون هناك رد فعل على ما كتبتُ عن الشيخ الذى يعرفه المجتمع بأنه تنويرى، وكان فقد اتصل بالأستاذ مفيد ينكر أن يكون استقبل منّى اتصالاً، وكان الرد الذكى جدّا من (الأستاذ مفيد) إذن فضيلة الشيخ تأتى لك فاطمة وتقول رأيك فى هذا الموضوع ونعتذر عمّا جاء فى الموضوع عن حضرتك، فتعلل الشيخ بعدم مقدرته لارتباطه بأشياء أخرى، وبعد المكالمة استدعانى (الأستاذ مفيد) وأثنى على شجاعتى وقال لن نعتذر عمّا كتبتِ لأنك صادقة..وبعد خروج الموضوع إلى النور ذهبتُ إلى الأستاذة التى هلل وجهها فرحًا بى وقالت أنتِ تناولتِ قضيتين؛ الأولى(كارثة الطلاق الغيابى) والثانية (هل فعلا الشيخ الغزالى تنويرى مجدد أمْ أنها صفة زائفة روّجها الشيخ عن نفسه)؟
هذه حكايتي مع أستاذتي التى ظلت تتابعنى حتى آخر يوم فى عمرها رحمة الله عليها التى هى أمينة وأنا بها سعيدة ما حييت.
__________________
عضو الهيئة الوطنية للصحافة
____________
مجلة روز اليوسف