«بولين كايل».. جراحة السينما التي ألقت ردائي النسوية والحياء (2-2)
الثلاثاء 02/مارس/2021 - 05:31 م
إسلام علام
شغلت ومازالت تشغل "بولين كايل" عقول الجمهور وأقلام النقاد السينمائيين في العالم، وكما توقفنا في المقالة السابقة، فبولين كايل كانت مدركة لمحاولات قولبتها واختزالها "كامرأة ناقدة"، فأخرجت نفسها من ذلك القالب لتكون ناقدة وحسب، ربما دون أن تشعر، فقد كانت كتاباتها قوية وحماسية ومؤثرة وشديدة الثقة لدرجة أنه قالت عنها مولي هاسكيل: "إن قلم بولين كايل فائض بالتستوستيرون رغم أنها امرأة".
وفي نفس الفترة التي فرضت نظريات النقد النسوي نفسها على الساحة الثقافية والأكاديمية وظهرت مصطلحات من عيار"النظرة الذكورية male gaze"، وأخذ البعض ينتقد سيطرة الذكور على صناعة السينما وكيف ساهم ذلك في تشويه المرأة وحصرها بالجانب الجنسي فقط، فلم تركب بولين كايل نفس الحافلة.
وأبرز صفعة منها لتلك النظريات النسوية ما كتبته عن فيلم "The Last Tango in Paris" للمخرج برناردو برتلوتشي، وهو الفيلم المثير للجدل لمحتواه الإيروسي، ولكنها استقبلت الفيلم بنقد بالغ الحفاوة، نقد احتوى على جرأة تتناسب مع محتوى الفيلم وبكلمات ربما لو كتبها نقاد ذكور لاتهموا بالشهوانية.
وفي تلك النقطة كانت بولين كايل سباقة في خلع رداء الحياء قبل رداء النسوية منذ بدأت مشوارها الاحترافي، ومحبوها يتذكرون دائما مقالها عن فيلم "Nashville" للمخرج روبرت ألتمان، حيث امتدحت الفيلم مدحا هيستيريا لدرجة أن افتتحت مقالها بوصفه كحفل مجون لمحبي السينما!.
وبالنظر والتمعن والقراءة المتفحصة لعناوين كتبها نجد نمطا واضحا يربط بينها، كل العناوين مزدوجة المعنى وبها إيحاءات متجاوزة للسينما، فكتابها الأول صدر عام 1965 بعنوان "فقدتها في الأفلام I Lost it At the Movie وفي تفسيرها لهذا العنوان تقول، قدمت لناشري كل العناوين الجادة المتاحة ولم يعجبه أيٌ منها، وبينما كنت متعبة وغارقة في عمل الفهرس أرسلت له عنوان "فقدتها في الأفلام" فوقع اختياره عليه، رغم أنني لا أعرف المعنى الذي يحمله، قد يكون الشيء الذي فقدته هو حياتي العادية.
أما كتابها الثاني فحمل عنوان "قبل قبل اضغط اضغط" Kiss Kiss Bang Bang، وتقول إنها استلهمته من عبارة على ملصق دعائي لفيلم إيطالي، ترى كايل أن العبارة تختذل كل ما بفن السينما من سحر وجاذبية.
كما لها أيضًا كتب بعناوين أترنح Reeling، وآخذه كله بداخلي Taking it all in، وكتاب بعنوان عندما تطفأ الأنوار When Lights Go Down.
أما مقالها بعنوان "تفاهة وفن وسينما"، يكشف الكثير عن منهجها الجريء فيما يتعلق بقضية الفن الرفيع والفن الهابط، تقول، "إن رومانسية السينما ليست في القصص وهؤلاء الناس الذين يعرضون على الشاشة، ولكن في حلم المراهق بأن يقابل آخرين يشعرون بما يشعر به تجاه ما يراه".
وعندما يلقاهم يعرف كل منهم الآخر ببساطة، لأنهم يتحدثون عن الأفلام الجيدة أقل مما يتحدثون عما أحبوه في الأفلام السيئة، إننا نستمتع بالأفلام لأسباب لا علاقة كبيرة لها بالفن. حقا إن أشد ما يسعدنا في الأفلام قد يكون الشيء اللاجمالي الذي يجعلنا نتهرب من مسؤولية الاستجابة المحمودة التي تمليها قيم البرجوازية في البيت والمدرسة.
إن ذلك يساعدنا على أن ننمي في أنفسنا إحساسًا جماليًا، لأن الاضطرار للانتباه والتقدير يأتي أحيانًا بنتيجة عكسية تجاه تلقي الفن، إذ يجعلنا متوترين فلا نحس بلذة التذوق، بينما تكون استجابتنا أكثر تحررًا وأكثر قدرة على النمو لو تحررنا من الواجبات الثقافية والقيود".
وفي المقالة نفسها تتابع، "إنني لا أثق في شخص لا يقر أنه في وقت من حياته لم يستمتع بالأفلام الأميركية التافهة، لا أثق في أولئك الناس الذين ولدوا بذوق راق، بحيث لم يحتاجوا أن يشقوا خلال التفاهات، لا تنتمي التفاهة للتراث الأكاديمي، وهذا جزء من المتعة المصاحبة لها، لا تتطلب منك أن تأخذها بكثير من الجدية... نحن لسنا فقط أناسا متعلمين ذوي ذوق رفيع، بل إننا أيضا أناس عاديون ذوو مشاعر عادية، ومشاعرنا العادية ليست كلها سيئة، إنك تتوق أن تجد في التفاهات بعض الحيوية التي تفتقدها في "الأفلام الفنية المحترمة".
تلك المقالة نشرت عام 1969 وتعد واحدة من أهم القطع التي كتبتها كايل، لكنها خادعة بعض الشيء بوجهة النظر التي تخلفها عند القارئ بأن كايل محافظة وتقليدية في ذوقها، على العكس، والبينة على ذلك مقالها الشهير عن فيلم "Bonnie and Clyde" الذي يعتبره الكثيرون نقطة مفصلية للسينما والنقد الأميركي، وكان بمثابة بيان تدشين لموجة هوليوود الجديدة في السبعينيات، بينما رفض معظم النقاد هذا الفيلم لمحتواه العنيف وعدم التفريق بين الهزلي والجاد، كانت كايل من القلائل الذين تحمسوا للفيلم في مقالها الطويل بمجلة نيويوركر الذي كان سببًا في تعيينها بتلك المجلة العريقة.
كايل لم تدعم هذا الفيلم وحده، لكن تلك الموجة بوجهٍ عام، والتي أفرزت لنا أسماء من عيار مارتن سكورسيزي، وروبرت ألتمان وهالأشبي وكوبولا، يقال إن مقالها عن فيلم M.A.S.H لـ ألتمان كان سببا رئيسيا في نجاح الفيلم، ليس ذلك وحسب، بل سببا في خروج الفيلم بالرؤية التي أرادها مخرجه ودون التعديلات المتوقعة من الجهة الإنتاجية، حيث شاهدت كايل الفيلم في عرض خاص قبل طبعه بأسابيع، وكتبت عنه بولع شديد، ما اضطر الشركة لعرضه بنفس النسخة.
كذلك كانت أول من تنبأ بموهبة مارتن سكورسيزي في مراجعتها لفيلمه Mean Streets وعلى أية حال، لم تكمن أهمية بولين كايل فيما أحبت ولم تحب، بل في كتاباتها وأسلوبها الحماسي، ونثرها الذي لا يقل في جمالياته عن الأدب، طاقة عشق ووله صادقة لفن السينما تجعلك في أغلب الوقت تتغاضى عن تفضيلها لأفام لا تحبها وإشعالها النيران بأفلامك المفضلة.
جمعتها علاقات صداقة مع بعض مخرجي السينما في عصرها، أبرزهم ألتمان وسام باكنباه، ووودي آلن، واضطربت صداقاتها مع الثلاثة في وقت ما حين كتبت بشكل سلبي عن بعض أفلامهم، وصفت وودي آلن بأن عقله صغير لخصامها حين هاجمت أكثر فيلم يعتز به في مشواره Stardust Memories، رغم أنها عادت وكتبت أبيات غزل في فيلمه اللاحق Hannah & Her Sisters.
وفي المقابل قال عنها آلن: "إنها تملك كل الملكات التي يتطلبها ناقد عظيم، باستثناء الأحكام، لا أمزح، لديها شغف كبير، وحذق مخيف، وأسلوب كتابة مدهش، ومعرفة ضخمة بتاريخ السينما، لكن دائما ما تختار أن تمجده أو تدمره من الأفلام يفاجئني".