بقلم أنس الرشيد: بول ريكور على جبل الرماة

الهضبة التي تقع جنوب جبل أحد بالمدينة المنورة من كان سيذكرها لولا معركة أحد؟ فقد جُعلت مقرًا لرماة المسلمين حتى عُرِفت باسم جبل الرماة، لكن في الوقت نفسه لم تتميّز هذه المعركة لولا هذا الجبل، فبه -أول المعركة- حُمِي جيشُ المسلمين، وبه -آخرها- خسروا، فالمنتصر الحقيقي في المعركة هو من استفاد من الجبل. وضع المسلمون عليه 50 راميًا ليحموا الجيش، ويُمكنني أن أقول لمراقبة المعركة، لأنَّ الرماةَ الذين وقفوا على الجبل هم في قلبِ المعركة دون أن ينصهروا فيها. ومن اللطائف أنَّ وجودَ الرماة على هذا الجبل هو الفاصل الدقيق بين شكلين للوجود الإسلامي؛ إذ كان أولئك الرماة أعينًا ترى ما لا يراه المقاتلون في غبار المواجهة، ولمَّا رأوا النصر أمامهم تركوا الجبلَ طمعًا في الغنيمة، فالتفّ خصومهم من خلف الجبل، وتحول الحالُ إلى لحظة وجودية أخرى.
في معركة أحد أخرى وقف الفيلسوف الفرنسي بول ريكور في مواجهة التاريخ الإنساني يطرح سؤالًا يُشبه فعل الرماة: كيف نفهم ما يجري ونحن داخل غبار المعركة؟ كيف يُمكن للإنسانِ أن يُفسِّر العالم وهو جزء منه؟ أن يقرأ التاريخَ وهو صفحة فيه؟ أن يتحدث عن المعنى وهو أحدُ صانعيه؟ لم يجد ريكور- بعد أن أنهكته معركةُ أحد التاريخيّة- جوابًا أفضل من أنَّنا لا نستطيع امتلاكَ المعنى إنَّما نُقيم علاقة معه، وربما لا نستطيع أن نفهم الرؤيةَ الريكوريّة إلا بمساعدة جبل الرماة، الجبل الذي يجعلنا في قلبِ المعركة وفي الآن نفسه لا ننصهر بها؛ لأنَّ الإنسانَ لا يستطيع أن يرى إذا كان تحتَ مثار النَّقع، ولا أن يُصيب الهدفَ إن ظلَّ بعيدًا عن الميدان، لهذا لا حلَّ -لدى ريكور- إلا المسافة النقدية، المسافة النقدية التي تعني جبلَ رماةٍ تاريخي، وهذا ليس حيادًا -فالحيادُ نوعٌ من العمى- بل قدرة تأمليّة داخل التَّاريخ نفسه، داخل المعركة.
إذن الذوبان في تقاليد المعيشة وآفاقها مثل الدخول في قلبِ معركة كلاهما عمى، كلاهما يمنعان الفهم. ومن ادَّعى الحياد- بأن يكون خارج التقاليد- فقد توهَّم مكانًا لا وجود له. والسؤال: هل نزول الرماة من الجبل كان خطأ أخلاقيًا لأنهم متَّهمون بشهوةِ الغنيمة؟ أم هو معرفي لأنَّهم ظنوا أنَّ المعركةَ انتهت؟ ربما الإجابة تجمع الخياريْن، فالرماة فقدوا القدرةَ على الفهم لمَّا التفتوا إلى فكرة الثمرة المباشرة من المعركة وهي الغنائم، وتركوا المعركةَ نفسها، فصاروا أسرى للّحظة المرغوبة (لحظة الغنيمة)، وفقدوا المعنى والتأويل؛ فقائد المعركة قال لهم: «لا تبرحوا أماكنكم حتى لو رأيتمونا تتخطّفنا الطير»، وهذه جملة تُبيّن مدى أهمية المسافة النَّقدية التي يحتاجها من يريد فهم التاريخ وهو داخله، وهي المسافة التي يحتاجها مراقبُ المعركة وذلك بألا يستعجل انتهاءَها لدوافع مختلفة عن فهم ما الذي يجري؟ وما زلتُ أذكر زيارتي الأولى لجبلِ الرماة ولا أنسى ملامح ذلك الرجل بلحيته البيضاء الكثَّة يشرح لزائري الجبل كيف التفَّ خالد بن الوليد على الجبل؛ ليظفر جيشُه بالنَّصر، كنتُ أفكّر -وأنا أسمع شرح الرجل- بسؤال: ما الذي أيقظ ابنَ الوليد ليفعل ما فعل؟ ربما أنَّ خالدًا أدركَ أنَّ المسافةَ النَّقدية التي تحلّى بها المسلمون هي سبب انتصارهم، فأحد المؤرخين العسكريين المعاصرين ذهبَ إلى أرضِ المعركةِ وانتبه إلى إشكالٍ مهم؛ وهو أنَّ الوقوفَ على جبلِ الرماة لا يُوصِل السهامَ كما ينبغي، فالمسافة بين قمةِ الجبل وساحة المعركة كبيرة، فتوصّل إلى أنَّ رماةَ جيشِ المسلمين كانوا مقسّمين إلى فريقين، فريق للرصد والحماية وهم في قمةِ الجبل، وفريق في منتصفِ الجبل مهمته رمي السهام، وكأنَّه بهذا التوزيع حلَّ الإشكال الفيزيائي والعسكري معًا، فالرماة في المستوى المتوسط كانوا قريبين من ساحة القتال بحيث تصل سهامهم بفاعليّة، وأما الذين في الأعلى فكانوا عيونًا استراتيجية تُحافظ على الرؤيةِ وتمنع أن يأتي قائد فذّ -كابن الوليد- لينقض عليهم. لهذا لم يكن التفاف خالد إلا لأنه أدرك هذه المسافة النقدية التكتيكية التي تجعل جيشَ خصمه ينتصر، والسؤال لماذا لم يجعل ابن الوليد لجيشه مسافة نقدية تشبه مسافة جيش المسلمين؟ جيش خالد جاء إلى المدينة من شمالها لأنَّ جنوبَ المدينة محصّن؛ وكأنَّ جيشه حُرِم المسافة النقدية، فكانت عينه على إلغائها عند خصمه، وربما أنَّ نزولَ الرماة من الجبل كان بتدبير ذكي من جيشِ خالد، وكأنَّه استولى على الأدواتِ النقدية التي امتلكها الآخرون فانتصر في أرضٍ ليست أرضه.
التفاتة:
ما الذي يجعل فريقَ كرةِ قدمٍ يلعب على أرضه وبين جمهوره -عادةً- يفوز؟ ربما هي المسافة النقدية التي تُجهَّز قبل أن يأتي الخصم من شمال المدينة.
نقلا عن الوطن السعودية