بقلم هادي اليامي: الأنظمة السعودية درع المجتمع وحارس القيم

في زمنٍ تتسارع فيه التحولات الرقمية وتتشابك فيه الحدود بين الحرية والمسؤولية، تبرز المملكة العربية السعودية نموذجًا فريدًا يجمع بين الانفتاح التقني والالتزام القيمي الراسخ. فقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي جزءًا لا يتجزأ من حياتنا اليومية، وتغلغلت في تفاصيلنا الخاصة والعامة حتى لم يعد يخلو منها هاتف محمول. ومع هذا الحضور الطاغي، تتصاعد الشكاوى عالميًا من تجاوزات مخلّة في محتوى كثير مما يُنشر عبر هذه الوسائط إلى درجة تهدد النسيج الاجتماعي للدول وتزلزل استقرارها، بل تسهم أحيانًا في إشاعة الكراهية وتقويض الأمن.
إلا أن المتأمل للواقع المحلي في السعودية يجد أننا أفضل حالًا من غيرنا، وأن المحتوى الرقمي - في عمومه - يظل منسجمًا مع الثوابت الدينية والوطنية التي يقوم عليها المجتمع، رغم ما قد يطرأ من تجاوزات محدودة بطبيعة الحال. ويُعزى هذا الانضباط بدرجة كبيرة إلى وعي المستخدم السعودي والتماسك القيمي الذي يميّز المجتمع، وإلى النهج القانوني المتكامل الذي تبنّته الدولة منذ بداية انتشار وسائل التواصل الاجتماعي لضبط استخدامها وتنظيمها.
لقد حرصت المملكة، منذ وقت مبكر، على صيانة ثوابت المجتمع ومنع المساس بها، ففرضت ضوابط دقيقة وعقوبات رادعة بحق كل من يحاول تهديد أمن المجتمع أو قيمه الأصيلة. ويأتي ذلك ضمن نهضة تشريعية غير مسبوقة تشهدها البلاد تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، وولي عهده الأمين الأمير محمد بن سلمان - حفظهما الله -، حيث جرى استحداث وتطوير عشرات الأنظمة التي تغطي شتى مناحي الحياة. فأصبحت المملكة في هذا العهد الزاهر دولة مؤسسات حقيقية، تطبّق أعلى معايير الحوكمة والشفافية، وتستند في جميع تعاملاتها إلى القانون.
ولأن التطور التقني بات جزءًا من الحياة اليومية، فقد كان طبيعيًا أن تُبدي السعودية حرصًا بالغًا على ضبط محتوى التواصل الاجتماعي بما يحقق التوازن بين حرية التعبير والمسؤولية القانونية، ويحافظ في الوقت ذاته على القيم الدينية والوطنية والأمن الاجتماعي. وهنا يبرز الدور المحوري لهيئة تنظيم الإعلام، التي تبذل جهودًا حثيثة لضمان هذا التوازن الدقيق، من خلال تنظيم المحتوى، ومتابعة أداء المؤثرين، وإصدار تراخيص الأنشطة الإعلامية، ومراقبة التزامها بالمعايير القانونية والأخلاقية. وقد أطلقت الهيئة العديد من المبادرات التي تهدف إلى تعزيز التزام المعلنين والمؤثرين بالممارسات المسؤولة في فضاء الإعلام الرقمي.
ومع الطفرة الرقمية الهائلة التي شهدتها المملكة خلال السنوات الأخيرة، وما رافقها من توسّع في استخدام المنصات الاجتماعية، جاءت الحاجة إلى تطوير تشريعات حديثة تواكب هذا التحول، وتضمن في الوقت نفسه صيانة القيم والمبادئ التي يقوم عليها المجتمع السعودي. ومن هنا مُنحت الهيئة صلاحيات شاملة لتطبيق الأنظمة ومتابعة المخالفات بالتعاون مع الجهات الأمنية المختصة، وفرض العقوبات النظامية على كل من يتجاوز حدود القانون.
وقد شُكّلت منظومة قانونية متكاملة لتنظيم النشر الإلكتروني، أبرزها:
نظام الإعلام المرئي والمسموع الذي ينظّم النشاط الإعلامي ويعزّز الشفافية والمصداقية. نظام مكافحة الجرائم المعلوماتية الذي يجرّم نشر أو إنتاج ما يمس القيم الدينية أو النظام العام عبر الوسائط الإلكترونية. نظام حماية البيانات الشخصية الذي يضع الضوابط الحاكمة لتعامل الأفراد والجهات مع المعلومات المنشورة على الإنترنت. ولا تقتصر هذه الأنظمة على الردع فحسب، بل تكرّس مبدأ المسؤولية المجتمعية الرقمية التي توازن بين حرية التعبير وحماية كرامة الإنسان، وتعيد تعريف مفهوم الإعلام المسؤول في البيئة الرقمية السعودية.
وبما أن القيادة السعودية تولي أهمية قصوى للحفاظ على طبيعة المجتمع وهويته، فقد جاءت هذه الأنظمة لترفض بثّ أي محتوى يخالف القيم الأخلاقية والوطنية، أو يدعو للقبلية والعنصرية، أو يروّج للكراهية والإقصاء، أو للتفاخر المبالغ فيه بالثراء، أو للتنمر والاستهزاء بالآخرين. كما تمنع تصوير الأطفال أو العمالة المنزلية دون إذن مسبق، أو نشر الخلافات الأسرية أو انتهاك خصوصيات الأفراد والعائلات، فضلًا عن رفض كل ما يخالف الذوق العام من مظهر أو لفظ أو سلوك. وبهذا تُرسّخ المملكة هويتها الوطنية في الفضاء الرقمي وتقدّم نموذجًا متفرّدًا في الجمع بين الأصالة والانفتاح.
ولأن التشريع وحده لا يكفي دون وعيٍ مجتمعي، فقد حرصت الهيئة على تبنّي نهج توعوي مستدام بالتعاون مع عدد من الجهات ذات العلاقة، يقوم على نشر ثقافة المسؤولية والالتزام قبل تطبيق العقوبات. إذ عقدت العديد من ورش العمل لتعريف المؤثرين والمعلنين بدورهم الوطني، وحثّهم على المساهمة في حماية القيم المجتمعية وتعزيز الوحدة الوطنية، إلى جانب توعيتهم بالمعايير القانونية للمحتوى ونوعية العقوبات التي تطال المخالفين. وهذا يؤكد أن دور الهيئة يتجاوز الرقابة إلى التنوير والإرشاد، في إطار سياسة سعودية متزنة تضع الإنسان في قلب التنمية والوعي في صميم الحوكمة.
لقد أسهمت هذه الجهود المتكاملة في إعادة الانضباط إلى فضاء التواصل الاجتماعي، حيث انخفضت التجاوزات بدرجة كبيرة مقارنة ببدايات الاستخدام، وأصبح المحتوى السعودي في مجمله معبّرًا عن قيم المجتمع وثقافته. وإن وُجدت بعض الانتهاكات في الوقت الراهن، فهي محدودة وتحت السيطرة ولا تشكّل تهديدًا لمتانة النسيج الاجتماعي.
وما يبعث على الاطمئنان أن هذا النهج السعودي المتوازن - القائم على الجمع بين التشريع والوعي - كفيلٌ بإبقاء المحتوى الرقمي في إطار القيم والمبادئ، خصوصًا مع استمرار تطوير الأنظمة وتحديث الضوابط وتوسيع نطاق التوعية. فالمملكة اليوم ترسم بوضوح ملامح نموذجٍ فريد في إدارة الفضاء الرقمي، يوفّق بين الانفتاح والضبط، ويجعل من القانون درعًا يحمي المجتمع ومن القيم بوصلةً توجهه نحو مستقبلٍ آمنٍ ومستقر.