بقلم فاطمة المتحمي: اليد والقلم : حيث يولد الفكر

لطالما شعرت أن الكتابة باليد تحمل طابعاً مختلفاً عن أي نوع آخر من التعبير. هناك شيء يشبه السكون العميق يحدث حين تلتقي أصابعنا بالحبر والورق؛ كأن الأفكار تنساب ببطء لتأخذ شكلها الحقيقي، وكأن اليد تُترجم ما يدور في الداخل بصدق لا تقدر عليه المفاتيح ولا الشاشات. في كل حرف أكتبه أشعر أني أضع جزءاً من ذاتي، وأن الكتابة لم تعد مجرد وسيلة لتدوين الفكرة، بل طقس من التأمل والتواصل مع النفس.
ولعل هذا الإحساس العميق بالكتابة يعكس إيماني بقوله تعالى:{ن والقلم وما يسطرون}، تلك الآية التي تبدأ بالقسم بالقلم وما يُكتب به، في دلالة على عظمة الكلمة، وشرف العلم، وقداسة ما يُسطر به من معرفة وفكر. فالقلم - بما أنه ذُكر في القرآن- ليس مجرد أداة لتدوين الحروف، بل رمز للقدرة على التعبير، والتوثيق، ونقل المعرفة عبر الأجيال. هذا القسم الإلهي يجعل من الكتابة فعلاً مُقدساً، يذكرنا بأن ما نكتبه يظل شاهداً علينا أو لنا، وأن لكل كلمة وزنها وأثرها في الفكر والحياة. ومن هنا تنبثق قيمة الكتابة باليد، التي تُجسد العلاقة بين الفكر والروح، وتمنحنا فرصة للتأمل والإبداع بوعي أكبر.
الكتابة باليد ليست عادة قديمة ينبغي أن تُنسى، بل تجربة فكرية وروحية تُعيدنا إلى بطء جميل افتقدناه، بطء يمنحنا فرصة التأمل في الكلمة قبل أن نكتبها، ويُعيد إلينا حِس الارتباط بما نفكر ونشعر. إنها مساحة صغيرة من الصفاء في عالم سريع لا يترك وقت للمعنى.
في هذا الإطار، تُظهر الدراسات العلمية الحديثة أن الكتابة باليد ليست مجرد عادة فقدت قيمتها في عصر التكنولوجيا، بل هي نشاط ذهني عميق يُحفز الدماغ، ويقوي الذاكرة، ويجعل التفكير أكثر صفاءاً وتركيزا ً. ورغم اعتماد معظم الناس اليوم على الهواتف وأجهزة الكمبيوتر لتدوين الملاحظات، بدأ العلماء باكتشاف أن العودة إلى القلم والورقة تمنح العقل ما لا تستطيع لوحة المفاتيح منحه.
ففي جامعة العلوم والتكنولوجيا بالنرويج، وجد الباحثون أن الكتابة باليد تُفعل مناطق أكبر من الدماغ مقارنة بالكتابة على لوحة المفاتيح. فحين نحرك القلم ونرسم الحروف، يشارك الدماغ في عملية متكاملة تجمع بين اللمس والحركة والرؤية واللغة، وهو تفاعل معقد يجعلنا نستوعب ما نكتبه بعمق أكبر. هذه العملية لا تحدث بالقوة نفسها عند الطباعة، حيث يعتمد الشخص على نسخ الكلمات بسرعة دون الحاجة إلى التفكير فيها كثيراً.
في جامعتي واشنطن وUCLA أظهرت دراسة أن الطلاب الذين يكتبون ملاحظاتهم باليد يتذكرون المعلومات ويفهمونها بشكل أفضل من زملائهم الذين يستخدمون الأجهزة. السبب بسيط: الكتابة اليدوية أبطأ، لكنها تجعل الطالب يعيد صياغة الفكرة بكلماته الخاصة، في حين أن الكتابة السريعة على لوحة المفاتيح تشجع على النسخ الآلي دون تفكير. بمعنى آخر، البطء هنا ليس عيباً، بل فرصة ليتأمل الدماغ ما يتعلمه ويخزنه بعمق.
بالنسبة للأطفال، وجدت دراسة نرويجية أخرى أن الكتابة باليد تساعدهم على تعلم الحروف والقراءة بسرعة أكبر. فالطفل الذي يكتب الحرف بيده لا يحفظ شكله فقط، بل يشعر به ويتفاعل معه حسياً، ما يجعل ارتباطه باللغة أقوى. ولهذا يرى خبراء التربية أن الكتابة اليدوية يجب أن تظل جزءاً أساسياً من التعليم في السنوات الأولى، لأنها تبني أساسات التعلم بشكل طبيعي ومتوازن.
وفي اليابان، أظهرت تجربة بجامعة تسوكوبا أن الأشخاص الذين كتبوا ملاحظاتهم بالقلم احتفظوا بالمعلومات لفترة أطول من أولئك الذين كتبوا على الكمبيوتر. ويفسر الباحثون ذلك بأن الكتابة اليدوية تتطلب تنسيقاً دقيقاً بين العين واليد والدماغ، ما يجعل الذاكرة أكثر نشاطاً واستقراراً.
حتى كبار السن يمكنهم الاستفادة من الكتابة باليد. فقد وجدت دراسة صينية أن ممارسة الخط اليدوي تساعد على تحسين الذاكرة والانتباه، وتزيد نشاط مناطق الدماغ المسؤولة عن التفكير والتنظيم. بمعنى آخر، الكتابة يمكن أن تكون شكلاً من أشكال التمرين العقلي الذي يحافظ على حيوية الدماغ مع التقدم في العمر.
ورغم أن هذه الدراسات لا تقول إن الكتابة باليد تجعلنا (أذكى) بالمعنى الحرفي، إلا أنها تؤكد أن هذا النوع من الكتابة يساعدنا على التفكير بعمق أكبر، وعلى فهم الأفكار وربطها بطريقة أكثر وعياً. فالقلم والورقة يجعلاننا نتوقف لحظة أمام ما نريد قوله، نختار الكلمات بعناية، وننقل ما يدور في أذهاننا إلى العالم بخطوات متأنية ومدروسة.
في النهاية، يبدو أن الكتابة باليد ليست بقايا من الماضي كما يعتقد البعض، بل وسيلة لاستعادة العلاقة الحية بين العقل والفكر. وربما لا يمكننا أن نكتب كل شيء بالقلم في زمن السرعة، لكن يمكننا أن نخصص لحظات بسيطة للكتابة اليدوية، لتدوين فكرةٍ أو تأمل أو حتى قائمة مهام لنستعيد شعورنا بالاتصال العميق مع أنفسنا، ونمنح فكرنا فرصة للنمو والتأمل كما ولدت الكتابة اليدوية من قبل: بين اليد والقلم، حيث يولد الفكر.