بقلم أنس الرشيد: الإدارة العامة للكلمات

مما روى التوحيدي أن رجلًا كتب رقعة إلى الأمير طاهر يسأله حاجة، فأراد الأمير أن يصرفه فأجابه بتوقيع مختصر: «ما شاء الله كان»، عبارة توحي بالقدرية وتغلق باب الجدال، لكن الرجل كان بالمرصاد للأمير طاهر فأضاف تحتها: «إن الله شاء المعروف»، فحول لغة الجبر إلى حجة للإحسان، وألزم الأمير بأن يصله، وهذا ما جرى فعلًا حيث وصله الأمير في آخر الحكاية التي رواها أبو حيان. نلاحظ أن الرجل غير شيئا بسيطا في الجملة؛ ليقلب المعادلة كلها، وكأنه استخرج من معتقد الأمير مسارًا إجرائيًا يفضي إلى العطاء.
في إحدى المقابلات التلفزيونية شدني حوار بين رجلين يفترض أنهما مختلفان جذريًا في اقتصاد السوق وانعكاساته على أرض الواقع، إذ كان نقاشهما حول حاجة مدينة الرياض للمقاهي، إلا أنه بعد شد وجذب قال الرافض لوجود مزيد من المقاهي -بحجة أن الكثير يفلس ويغلق- «السوق مشبع»، فما كان من الآخر إلا أن قال: «التشبع فرصة تمايز». هذا الرد لافت؛ لأنه يقفز على الحلول التي تحتاج إلى الدخول في عمق التنظيمات والتشريعات وبواطن القرارات، ويدخل إلى لعبة الكلمات كمثل ذلك الرجل مع الأمير طاهر، وكأن هذا المحاور ينادي بإنشاء قسم للكلمات في إدارة المشاريع، حيث الكلمات هنا تغير الواقع كما جرى للرجل مع الأمير، وكما فعل العطار بدر الحرقان -مثلا- في استخدام التشبع وجعله فرصة تمايز، فدخل من بوابة الفن والاختلاف إلى عالم صناعة العطور الصادمة للذوق المستريح بالأنماط العالمية.
وقسم إدارة الكلمات -التي افترضنا أن ذلك المحاور دعا لإنشائه- له ما يدعمه من واقع حال بعض الشركات، حيث يروي لي أحد الأصدقاء-وهو موظف مالي- بعد أن أطلعته على فكرة «كيف تدار المؤسسات بالكلمات»، يقول «ثمة مقولة يرددها مديره المباشر -بسبب وبدون سبب!- مفادها: (السياسة الداخلية تمنع الإنفاق غير المضمون)، مع أن السياسة نفسها تلزمنا بإنفاق وقائي؛ لأن كلفة الإخفاق أعلى. يعني لو السياسة تمنعنا من صرف ميزانية كبيرة على الاستعداد لوباء محتمل لأن الخطر مجرد احتمال، فالسياسة نفسها تلزمنا بإنفاق وقائي؛ لأن كلفة الإخفاق -إذا وقع الوباء بلا استعداد- ستكون أعلى بكثير من كلفة الاستعداد».
جملة المدير ذكرتني بمقولة الأمير طاهر للرجل: «ما شاء الله كان»، ورد الصديق ذكرني برد الرجل على الأمير «إن الله شاء المعروف»، لأن الصديق يوافق على أن السياسة تمنع الإنفاق العشوائي لكنه انتبه إلى أن السياسة نفسها -التي يحتج بها مديره- تضع مبدأ أعلى وهو حماية الشركة من الخطر، ومن ثم إذا كان عدم الإنفاق الوقائي سيؤدي إلى كلفة أكبر مستقبلًا -كخسارة سوقية أو كارثة تقنية أو أزمة سمعة إلخ- فالتزام السياسة يعني ضرورة الإنفاق الآن.
التفاتة:
قد يبدو أن الاختلاف بين مدير وآخر في السوق محكوم بالشهادات والخبرة الرقمية والعمل الدؤوب، لكن ما لا يبدو أن الفرق يكمن -أيضا- في قدرة أحدهما على إدارة الكلمات، فهل الشركات لديها قواعد غير مكتوبة في استقطاب المديرين الذين يعرفون كيف يعيدون صياغة الجمل التي تغلق الطريق إلى جمل تطلق العنان إلى مستويات مفاجئة؟ ربما.