بقلم أصيل الجعيد: الدبلوماسية السعودية في الطيران

يشكل انتخاب المملكة العربية السعودية لعضوية مجلس منظمة الطيران المدني الدولي «الإيكاو» تتويجًا لمسار طويل من الإنجازات المتراكمة التي جعلت من المملكة شريكًا رئيسًا في صياغة السياسات الدولية للطيران المدني. هذا الإنجاز لم يكن وليد اللحظة، بل جاء نتيجة لرؤية وطنية واضحة، واستثمار متواصل في البنية التحتية، وتعزيز للكفاءات الوطنية، إلى جانب ممارسة ذكية للدبلوماسية الجوية التي مزجت بين المصالح الوطنية والمصالح العالمية.
منذ إطلاق الإستراتيجية الوطنية للطيران المدني ضمن إطار رؤية السعودية 2030، كان الهدف المعلن هو تحويل المملكة إلى مركز عالمي للربط الجوي يربط القارات الثلاث. مشروعات عملاقة مثل مطار الملك سلمان الدولي في الرياض الذي يستهدف أن يكون أحد أكبر مطارات العالم بطاقة استيعابية تتجاوز 120 مليون مسافر سنويًا، إلى جانب التوسع في مطارات جدة والدمام وغيرها، رسخت صورة المملكة كقوة صاعدة في عالم الطيران. هذه الاستثمارات لم تكن موجهة للداخل فقط، بل حملت رسالة واضحة للعالم بأن السعودية جادة في بناء قطاع طيران يتوافق مع أعلى المعايير الدولية.
لكن البنية التحتية وحدها لا تكفي. فقد عملت المملكة على إعداد كفاءات وطنية مؤهلة نالت اعترافات دولية مرموقة في مجالات السلامة وتشغيل المطارات وتسهيل النقل الجوي. وجود أسماء سعودية بارزة حصلت على تصنيفات من الإيكاو والاتحاد الدولي للمطارات منح المملكة وزنًا إضافيًا داخل المنظمة، وأثبت أن لديها القدرة على إنتاج خبرات بشرية قادرة على التأثير في صناعة الطيران العالمية. كما أن مشاركة كوادر سعودية في مقار المنظمات الدولية في مونتريال تعكس أن المملكة لا تكتفي بالتمثيل الشرفي، بل تسعى لتكون طرفًا فاعلًا في صياغة القرارات.
على الصعيد الدبلوماسي، برزت المملكة كداعمة رئيسة لمبادرات دولية مثل «لا دولة تُترك خلف الركب» التي أطلقتها الإيكاو لمساعدة الدول النامية في تحسين قدراتها في الطيران المدني. كما أبرمت السعودية عشرات الاتفاقيات الثنائية والمتعددة الأطراف التي عززت الربط الجوي بين المملكة والعالم، وفتحت مجالات جديدة للتعاون الفني والتقني. هذه التحركات عززت صورة المملكة كقوة مسؤولة تسعى لتحقيق مصالحها الوطنية من خلال خدمة الأهداف العالمية للطيران المدني.
التصويت الساحق لصالح المملكة وحصولها على 175 صوتًا من أصل 184 دولة ليس مجرد رقم، بل رسالة ثقة دولية بأن السعودية باتت مُصدّرًا للمعايير لا مجرد مُستقبل لها. هذا يمنحها قدرة أكبر على التأثير في قضايا أساسية مثل خفض الانبعاثات الكربونية، تطوير أنظمة الملاحة الجوية، وتسهيل حركة النقل الجوي العالمي. وفي الوقت ذاته يفتح الباب أمامها لتعزيز مكانتها كمنصة دولية للطيران، بما يتماشى مع تطلعات رؤية 2030.
إن الدبلوماسية السعودية في الطيران باتت اليوم مثالًا على كيفية توظيف الرؤية الوطنية في خدمة المكانة الدولية، وعلى الجمع بين القوة الناعمة عبر الدبلوماسية، والقوة الصلبة عبر البنية التحتية والاستثمارات. وبذلك تتحول المملكة من دولة مستفيدة من السياسات الدولية للطيران إلى دولة صانعة لها، ما يجعل عضويتها في مجلس الإيكاو محطة فارقة في رحلتها نحو الريادة العالمية في هذا القطاع الحيوي.