بقلم سارة السهيل: جذور المصريين القدماء والتداخل الجيني مع شعوب الهلال الخصيب

تعددت الفرضيات حول أصول المصريين القدماء، فبين من ينسبهم إلى شمال أفريقيا، وتحديدًا منطقة الصخيرات، ومن يرى جذورهم في منطقة الهلال الخصيب، ظهرت أيضًا افتراضات تربطهم بأصول أفريقية جنوب صحراوية ضمن تيار "الأفروسنتريزم" **(وهو تيار فكري وأكاديمي يؤكد على المركزية الأفريقية وجذور الحضارة المصرية في عمق القارة السمراء، كرد فعل على النظريات الاستعمارية القديمة التي حاولت تفريق الأصول الأفريقية للحضارة المصرية)**. هذه الآراء، رغم تنوعها، لم تحسم علميًا، وظلت مثار جدل واسع.
من بين الدراسات المثيرة للاهتمام، ما طرحه الباحث البريطاني A. Waddell في كتابه “الأصول السومرية للحضارة المصرية”، الصادر مترجمًا عام 1999، حيث أجرى مقارنة بين أسماء الملوك، وتطور الكتابة، واختراع العجلة في بلاد الرافدين، مشيرًا إلى أوجه تشابه مع الحضارة المصرية. ومع ذلك، فإن هذه المقارنات لا ترقى إلى إثبات علمي قاطع حول الأصل السومري للفراعنة، بل تظل ضمن إطار التأملات التاريخية. كما ظهرت ادعاءات أخرى، مثل تلك التي تربط بناء الأهرامات بثقافات خارجية، وهي ادعاءات تفتقر إلى الدليل الأثري أو التاريخي الداعم.
ومع تطور علم الجينات، أصبح بالإمكان دراسة السلالات البشرية بدقة أكبر. وقد ساهمت شركات مثل “23 آند مي” في نشر هذا العلم على المستوى الفردي، مما أتاح للناس تتبع أصولهم الوراثية. وفي هذا السياق، نشرت وكالة “أسوشيتد برس” تقريرًا عن دراسة بريطانية أجريت على هيكل عظمي اكتُشف في منطقة النويرات قرب مقابر بني حسن بمحافظة المنيا، يعود إلى الفترة بين 2855 و2570 ق.م، **وهي الفترة التي سبقت مباشرة أو تزامنت مع بداية عصر بناة الأهرامات العظام، مما يعطينا صورة جينية مبكرة وثمينة عن أصولهم.** أي في حقبة مبكرة من عصر الدولة القديمة التي شيدت فيها الأهرامات الكبرى.
الدراسة، التي شارك فيها أكثر من 20 عالمًا من جامعات مرموقة، نجحت في استخراج الحمض النووي من أسنان الهيكل العظمي. وكشفت نتائج تحليل الجينوم أن نحو 80% من الشفرة الوراثية تعود إلى سكان شمال شرق أفريقيا من العصر الحجري الحديث، مما يدعم فرضية الأصل المحلي للمصريين القدماء. أما الـ20% المتبقية، فترتبط بجينات شعوب منطقة الهلال الخصيب، مثل العراق، إيران، وسوريا، وهو ما يُفسر بالتواصل الحضاري القديم، والزواج بين الشعوب، دون أن يؤثر ذلك على الملامح الوراثية الأساسية للمصريين.
ومع أهمية دراسة النويرات، فإن تعميق التحليل الجيني يتطلب النظر في نتائج دراسات أخرى أجريت على مومياوات من مناطق مختلفة في مصر، مما أتاح رؤية أكثر شمولًا لأصول المصريين القدماء. من أبرز هذه الدراسات:
**دراسة جامعة توبنغن ومعهد ماكس بلانك (2017):** وهي من أهم الدراسات في هذا المجال ونُشرت في دورية *Nature Communications* المرموقة. حلل الباحثون الحمض النووي لـ 90 مومياء من أبوصير الملقبة تعود إلى الفترة ما بين الدولة الوسطى والعصر المتأخر (حوالي 1400 ق.م إلى 400 ق.م). كشفت النتائج أن التركيب الجيني للمصريين القدماء في تلك الفترة كان **مشابهاً بشكل لافت لسكان الشرق الأدنى القديم** (بلاد الشام، الأناضول، والهلال الخصيب) مقارنةً بسكان مصر الحاليين، الذين أظهرت الدراسة أن لديهم نسبة أكبر من الجينات الأفريقية جنوب الصحراء. هذا يدعم فكرة أن التدفق الجيني من أفريقيا جنوب الصحراء إلى مصر ازداد بشكل ملحوظ في فترات لاحقة، بعد العصر الروماني على الأرجح.
وأيضا تحليل جينومي لمومياء عمرها 4500 عام: نُشرت نتائجه في Nature Middle East، وكشفت عن أصول مختلطة تشمل شمال إفريقيا والعراق، مما يعزز فرضية التبادل الجيني الناتج عن الهجرات والمصاهرة، دون أن يطغى على الهوية الوراثية الأساسية المرتبطة ببيئة النيل.
ومشروع الجينوم المصري الحديث: أطلقت مصر مشروعًا طموحًا لتحليل الحمض النووي لـ200 مومياء و100 ألف مواطن معاصر، بهدف رسم خريطة جينية دقيقة تربط الماضي بالحاضر. هذا المشروع، الذي تشرف عليه جهات علمية مصرية بالتعاون مع مؤسسات دولية، يسعى لتوثيق الهوية الجينية المصرية عبر العصور، وتحديد مدى تأثرها بالعوامل الخارجية.
ودراسة الحمض النووي للأسرة الثامنة عشرة: والتي استند إليها الباحث وسيم السيسي، وتحديدًا تحليل جينوم الملك توت عنخ آمون، حيث أظهرت النتائج ارتباطًا بنسبة 88.6% بالمصريين المعاصرين، مما يعزز فرضية الاستمرارية الوراثية عبر الزمن.
هذه الدراسات مجتمعة تؤكد أن الهوية الجينية للمصريين القدماء كانت محلية في جوهرها، متأثرة بشكل محدود بجينات شعوب الجوار، نتيجة للتبادل الحضاري والمصاهرة، دون أن تُغيّر من البصمة الوراثية المرتبطة بالنيل وبيئته.
هذه النتائج تتماشى مع دراسات سابقة، منها دراسة نُشرت عام 2017 على مومياوات من منطقة أبوصير، أظهرت أن المصريين المعاصرين يحملون بصمة جينية قريبة من تلك التي كانت لدى المصريين القدماء، وأن الهوية الجينية ارتبطت ببيئة النيل، وشكلت بصمة يصعب محوها.
كما أشار خبير الآثار علي أبو دشيش، مدير مؤسسة زاهي حواس للآثار والتراث، إلى أن أصل المصريين هو مصري خالص، مستعرضًا ثلاث نظريات حول الأصول، منها ما يربطهم بأفريقيا أو آسيا، لكنها لم تصمد أمام الأدلة الأثرية. وفي السياق ذاته، استند الباحث وسيم السيسي إلى دراسة الحمض النووي للأسرة الثامنة عشرة، وتحديدًا الملك توت عنخ آمون، والتي أظهرت ارتباطًا بنسبة 88.6% بالمصريين المعاصرين.
وبناءً على هذه المعطيات، فإن التأثيرات الجينية من شعوب الهلال الخصيب على المصريين القدماء كانت محدودة، وتُفسر في إطار العلاقات التجارية والمصاهرة، دون أن تغيّر من الهوية الجينية المرتبطة بالنيل وبيئته.
أما أوجه التشابه بين الحضارة المصرية القديمة وحضارات بلاد الرافدين، فقد تكون ناتجة عن تشابه بيئات النهر، مثل نهر النيل ودجلة والفرات، حيث نشأت الزراعة والاستقرار والمدن، وعن التبادل الثقافي والتجاري بين الحضارات القديمة، وليس بالضرورة عن أصل جيني واحد.
وبناءً على المعطيات العلمية الحديثة، وخصوصًا دراسات الحمض النووي، يمكننا استنتاج أن النموذج الأكثر دقة لأصل المصريين القدماء هو نموذج الأصل المحلي الأساسي مع تداخل محدود وجزئي مع جيرانهم في الهلال الخصيب، نتيجة للتبادل التجاري والثقافي والهجرات المحدودة على مر العصور. وهذا لا ينفي التشابه الحضاري مع Mesopotamia، الذي يُعزى على الأرجح إلى تشابه البيئة النهرية وتبادل الأفكار (المهارات المهنية ، الكتابة، العمارة) وليس إلى أصل جيني واحد. لذا، فإن الحضارة المصرية هي إنجاز لمجتمع استقر على ضفاف النيل وتطور محلي، مع انفتاحه وتأثره بمن حوله، وهو ما شكل هويته الفريدة.
لا أخفيكم سراً إنني كنت سأكون أكثر سعادة لو ثبتت نظرية أن أصول المصريين من العراق، وذلك بالطبع حبًا وودًا، فبحكم إقامتي في مصر ودراستي في الجامعات المصرية واختلاطي بالمصريين وجدت الكثير من التشابه بين الشعب المصري والشعب العراقي، ابتداءً من “الجدعنة” والكرم وحب الضيف، إلى المواقف السياسية والقومية، حيث كانت الدولتان دوماً داعمتين لأشقائهما وجيرانهما، وارتباطاتهما بالأرض وحب الوطن، ناهيك عن الثقافة والعمق الحضاري والرقي الاجتماعي بالسلوك الإنساني والمعاملات المنبثقة عن قدم وتاريخ عتيق. فلو اتحد العراق ومصر، فليُسمى اتحاد الحضارات.
وقد جاءتني هذه الفكرة عند مشاركة مصر بكل ثقلها في القمة العربية التي عقدت في العراق مؤخراً، فشعرت أن القمة فعلاً قمة الحضارات. كنت أتمنى أن تكون الجينات واحدة، أو كما يُقال “الدم واحد”، ولكن عزاءنا أن الـ20% هذه، كما يقال بالعراقي، “غزّرت” وانبتّت حبًا وودًا بين البلدين، حكومة وشعبًا.ليس بالضرورة ان يكون الدم واحد ليكون القلب واحد.