رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف
هير نيوز هير نيوز
رئيس مجلس الأدارة
خالد جودة
رئيس التحرير
هند أبو ضيف

بقلم أصيل الجعيد: كود المظهر العام

هير نيوز

في قلب المدن النابضة بالحياة، حيث تتقاطع خطوات البشر بأنفاس المكان، يُعد «كود المظهر العام» بمثابة ميثاق للجمال والانضباط، والهوية البصرية التي تصوغ انطباع الزائر الأولي، وتعكس ثقافة المجتمع ووعيه.

هذا الكود ليس مجرد تعليمات تنظيمية لطلاء واجهات أو زراعة أشجار على الأرصفة، بل «إطار حضري» شامل يحكم التناغم البصري للفراغات العامة، ويمتد من تصميم اللوحات الإعلانية إلى ألوان المباني، ومن تشجير الطرق إلى تنسيق الحدائق، ومن معالجة المشوهات البصرية إلى ضبط عناصر الإضاءة في الشوارع. إنه مرآة المدينة أمام الزائر والمقيم، وانعكاس حضاري لهوية متزنة، تُعلي قيمة الذوق العام، وتحترم العين التي ترى.

أهمية كود المظهر العام تنبع من كونه لا يعالج فقط التلوث البصري القائم، بل يضع أسس تفاديه مستقبلا من خلال تحديد معايير واضحة لارتفاعات المباني، وتصميم الأرصفة، وتوزيع المساحات الخضراء، وحتى نوعية المواد المستخدمة في الأماكن العامة، فالمدن التي تفتقر إلى هذا النوع من التنظيم تعاني تشوهات بصرية مزمنة، تفضي إلى فوضى عمرانية تُضعف شعور الانتماء، وتُنفّر المستثمر والزائر على حد سواء.

النماذج العالمية في تطبيق كود المظهر العام عديدة، وتبعث على الإلهام. مدينة باريس مثلا تطبق كودا دقيقا، يفرض توحيد ارتفاع المباني وألوان الواجهات، ومنع الإعلانات التجارية في المناطق التاريخية. أما سنغافورة، فقد حوّلت مفهوم التشجير الحضري إلى فنّ معماري، حيث يُشترط على المباني الجديدة تضمين مساحات خضراء تعادل ما أُزيل من أشجار للبناء. وفي مدينة فانكوفر الكندية، تُمنح تراخيص البناء فقط بعد التأكد من التوافق مع دليل التصميم الحضري الذي يضمن تناغم عناصر الفضاء العام ويمنع التشوهات. أما مدينة دبي، فقد وضعت دليلا تصميميا خاصا لكل منطقة على حدة، يراعي هويتها السياحية والثقافية، ويحدد استخدام الألوان والمواد واللافتات، لتتناسب مع بيئتها.

تطبيق هذا الكود في المدن السعودية يتطلب تعاونا بين الأمانات والمطورين وسكان الأحياء، ويبدأ بإصدار لائحة مرجعية موحدة تُلزم المشاريع العامة والخاصة على السواء، ويتطلب ذلك تأسيس لجان فنية، تضم مختصين في العمارة والتصميم الحضري والنقل والبيئة، يكون دورها مراقبة وتقييم أي مشروع جديد، لضمان اتساقه مع رؤية المظهر العام المعتمدة. كما يمكن استخدام التقنيات الحديثة، مثل الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز، في محاكاة الأثر البصري لأي مشروع قبل تنفيذه. وضمن آليات التطبيق، يجب فرض غرامات على المشوهات، مثل اللوحات الإعلانية المخالفة أو المباني المهملة، وتشجيع المواطنين على الإبلاغ عن التلوث البصري عبر تطبيقات ذكية تتيح المشاركة المجتمعية.

أما المكتسبات الاقتصادية لهذا الكود، فهي بعيدة الأثر، حيث إن تحسين المشهد الحضري يُزيد من جاذبية المدن للاستثمار والسياحة، ويرفع قيمة العقارات، ويعزز شعور الزائر بالثقة والانطباع الإيجابي. وعلى المدى البعيد، التناسق البصري يقلل من تكاليف إعادة التأهيل الحضري، ويُسهّل إدارة المدينة بطريقة أكثر كفاءة. كما أن تطبيق كود المظهر العام ينعكس مباشرة على الوعي المجتمعي، إذ يربي ذائقة بصرية عالية لدى الناس، ويشجعهم على احترام المكان العام، والانخراط في جهود التجميل والصيانة.

من الناحية الاجتماعية، فإن الفضاءات العامة المنسقة والمشذبة تخلق بيئة تفاعلية صحية، وتُعزز جودة الحياة، وتدعم الترابط بين السكان. فحين يشعر المواطن أن المكان حوله أنيق ومرتب، يزداد احترامه له، ويُنمّي لديه حس الانتماء والحرص على الصالح العام. كما أن المدن ذات المظهر الحضاري الجاذب تصبح أكثر قدرة على احتضان الفعاليات الثقافية، ما يُثري الحياة العامة، ويُعزّز رأس المال الاجتماعي.

كود المظهر العام ليس رفاهية تنظيمية، بل ضرورة حضارية، فهو الجسر بين التخطيط والتجربة الحسية، وبين السياسات والذوق العام، وبين الجمال والاحترام. هو دعوة لأنسنة المدن، ولرسم وجه حضاري يُشبه تطلعات المجتمع، ويليق بمكانته. في عالم أصبحت فيه المدن تتنافس على الانطباع الأول، يصبح المظهر العام عنوانًا لا يُقرأ بالعين فحسب، بل يُترجم شعورًا داخليًا بالانتماء والكرامة والهوية.

نقلا عن الوطن السعودية

تم نسخ الرابط