بقلم أنس الرشيد : الشيخ الزنديق

بقلم أنس الرشيد: الشيخ الزنديق.. في جلسةٍ برية حكى لي أحد الأصدقاء عن شيخٍ دينٍ غريبِ الحال إذا انفردَ بنفسه رآه متديّنًا ينسى كينونته، ويسرح في ملكوتٍ ليس له، وإذا قرأ كتاباته وجده زنديقًا، أو هكذا فهمَه. سألَ صديقي طبيبًا نفسيًا فكان جوابُ الطبيب أنه انفصام في الشخصية. شخّصه الطبيب (عن بعد)، ربما مجاراةً لموضةِ العمل هذا، ومع أنَّ أطباء النفس ليسوا ناقصين غباءً إلا أنهم يتسابقون على أبوابه، أو هكذا فهمت فربما أنا الغبي، المهم أنَّ صديقي سأل الطبيبَ عن أدقِّ علامات الانفصام؛ كي يتأمل الشيخَ في أحواله المتعددة، إلا أنه لم يجد تطابقًا بين العلامات الكبرى للمرض وسلوك الشيخ، فعاد إلى الطبيبِ الذي أجابه: العلامات تقريبية وليست حكمًا قاطعًا، ولو كانت العلامات كافيةً لكان كلُّ من عرفها يستطيع التشخيص. وحجةُ الطبيب مقنعة، لكنها تنقض في الوقت نفسه (التشخيص عن بعد)، ولماذا لم يقل هذه الحجة من البداية؟ لِمَ لجأ إليها لمَّا فشل تطبيقها؟ لا أدري، وأطباء النفس أبخص في زميلهم الذي لا أعرفه.
بقلم أنس الرشيد: الشيخ الزنديق.. منذ سمعتُ هذه الحكاية في شهر ديسمبر الماضي وأنا (أهوجس) بها؛ لأنَّها تجمع خليطًا عجيبًا، تدينًا وزندقة، وقد تذكَّرتُ مصطلح أفعالِ الخلوات الذي يأتي ذكره كثيرًا بين المتديّنين كقول (ذنوب الخلوات)، ويُراد به -كما أظنّ- أنَّ الخلوات ذروةُ الصفاء، وبها تخرج حقيقة الإنسان، ففكرتُ بهذا الشيخ الزنديق من خلال منظار مصطلح الخلوات، لكنَّ المشكلةَ أنَّ هذا الشيخ يقلب الطاولةَ على مضمون المصطلح؛ لأنَّه متألهٌ في الخلوات، وأمَّا الذنوبُ فهي في الجَمْعات، فإذا كانت حقيقتُه التَّدين في الخَفاء فلماذا يتزندق في العلن؟ ثم تذكّرتُ أنَّ صديقي تحدَّث عن الشيخ في خلواته، فكيف لخلوةِ الشَّيخ أن تكون خلوة وصديقي موجود فيها؟ لكن ما دام أنَّ الشيخ يُخرج زندقتَه في العلن فليس مضطرًا للكذبِ على صديقي، فلماذا -إذن- لا تكون الخلوات مأخوذة من لفظ الخلاء بغض النظر عن وجود شخص يُراقب؟ ولهذا طرحت السؤال التالي: لماذا لا يُستثمر مصطلح الخلوات في سوقِ التأمل الأكبر؛ لأنَّه يكشف الحقيقةَ كما هي بطرق متنوعة، وسأفكِّر به من خلال انكشاف الذاتِ لصاحبها كما هي في الخلوة والخلاء ثم الإقدام على وصف ما رآه في خلوته.
بقلم أنس الرشيد: الشيخ الزنديق.. وسأطرحه سؤالًا: هل يُمكن للذات أن تتغيّر حين تُترجَم إلى حروفٍ مكتوبة؟ لأني أستبعد أن يكون أحدٌ ما يكتب باسم الشيخ؛ لأنَّ أفعاله في الخلاء تمنع العبثَ باسمه في العلن.
بقلم أنس الرشيد: الشيخ الزنديق.. لهذا فربما أنَّ الخلاء والخلوة التي نفهمها -كخلوةِ الأنبياء مثلا- تجعلنا نرى من الذاتِ أشياء موجودة فيها لا تترجمها إلا الكتابة. ولهذا لما قلتُ لصديقي ما فكرتُ به وصفَه بانشطار الذات إلى جزئين، الجزء الأول هو ما يظهر لنا أو ما نستطيع أن نصل إليه في العلن، وأما الجزء الآخر فشرط تجلّيه الخلوة والخلاء، ولا يظهر إلا بالكتابة. وربما من هنا كانت الكتب المقدسة مفارقة لأصحابها الرسل وفي الوقتِ نفسه معبرة عن شيءٍ عميقٍ في ذواتهم.
التفاتة:
بقلم أنس الرشيد: الشيخ الزنديق.. يُحكى عن أحد الفراعنة أنَّ الإله (تحوت) علَّمه الكتابةَ، لكنَّ هذا الفرعوني حذر منها؛ لأنَّها ستُظهر الناسَ بلباس الحكمة، وهم أحمق أهل الأرض قاطبة. وهكذا نحن الكُتَّاب -في نظر صديقي- حكماء بالقلم وبالغياب، حمقى باللسان وبالحضور، لكن لا أظن أنَّ الشيخ الزنديق يعتقد اعتقاد صديقي، لأنَّ مَن جرَّبَ الخلوات عرفَ أنَّه لا يُوجد شيءٌ نقيٌ أصلًا، حتى الحضور أمام الناس مليء بالاختلافات والفجوات.