بقلم مجاهد عبدالمتعالي: بين ثغرين لغة تولد لغة تموت
يدخلان عليك مكان عملك (الحكومي أو الأهلي) ينتظران تقديم الخدمة، تسعد بهم وهم يثنون بالدعاء على التطوير الحاصل، ثم يفاجئوك ببعض الطلبات خارج نطاق اختصاصك، مكررين كلمة (احتسب الأجر من الله)، هنا تتوجس متسائلاً: هل احتساب الأجر من الله يخل بمهنية الموظف إذا تجاوز حدود المهنية؟! نعم ونظام مكافحة الرشوة يشهد ولو بذريعة (أحبك في الله).
زاد الطين بلة أن يكرر هؤلاء على مسمعك (والله إنك على ثغر... كتب الله لك الأجر) وبسبب تعليمك الديني/الشرعي، تستعيد منهم هذه العبارة وتسألهم: (أنا موظف في هذا القطاع أؤدي واجبي مقابل أجر، وفق آلية تسمى (واجبات الموظف) تراعي حقوق المواطنين على اختلاف مذاهبهم والمقيمين على اختلاف أديانهم... فما معنى كلمة (الثغر والأجر من الله) فيلتفتون إلى بعضهم مبتسمين بتملق شديد: ألا تعرف معنى (المرابطين على الثغور) فتقول لهم: بلى.. أعرف (الثغر) المرتبط بالبهجة والسعادة في ابتسامة جميلة، وأعرف الثغر بمعناه (الديني الحربي) فيتلعثمون بعبارات ملتوية كثيرة خلاصتها: أنه يظهر من ملامحك أنك من (ربعنا/ حزبنا) جاهلين (التزامك) بالموضة وأن الحلاق أقنعك بتضبيط لحيتك على موضة 2024 المسماة «ذيل البطة» ونسيت العقال في السيارة!
وعليه فمعنى أنك على ثغر هو أن تحمي مصالحنا وتقدمها على مصالح غيرنا من (عموم الناس/المواطنين)، وتحمي ثغرك/مكانك من أن يحصله من هو خارج (جماعتنا الدينية/حزبنا) ثم يذكرونك بالمسابقة الوظيفية في الشركة الكبرى وكيف أن الطائفة الفلانية حصلت على بعض وظائفها (للأسف)!!
هل مثل هذا الحوار (الطائفي) يمكن أن يحصل في زمننا الحديث (وفق رؤية 2030) وهل يمكن أن يحصل ما يشبهه تحت مسمى (القبيلة)؟ العظيم والمبهج أن يد (الدولة الحديثة) تحمي (المواطنة) بمفهومها الحديث من تغول مفاهيم (ما قبل الدولة) على الوجدان العام، ثم يلومك البعض على استغراقك في الكتابة عن أهمية (الحداثة) وتوطينها في الوجدان العام، فالبعض يظنها (التخلي عن قيمنا وعاداتنا) والبعض يتطرف فيظنها (التخلي عن ديننا) بينما الحداثة هي العقلانية والمنطق العلمي في تنقية (العادات والقيم) من الأعراض الجانبية لواقعنا (الحديث) وأقصد بالأعراض الجانبية (الاستهلاك الاستعراضي، تشيؤ الإنسان) وكذلك الحداثة هي العقلانية والمنطق العلمي في تنقية (الدين) من مروجي (الخرافة)، ومروجي ولاية الفقيه بوجهيها (السني/المرشد العام، والشيعي/المرشد الأعلى).
وعند هذا المستوى النقي تولد التقوى بمعناها (الفرداني) الحقيقي، فشكراً للحداثة التي حسمت قضايا (التبرع بالأعضاء، التبرع بالدم... الخ) بسيادة (التطور العلمي) عالمياً لتأتي الآراء المتسامحة تمشي المطيطاء تدعي الفضل على ركب العلم الحديث.
سأكمل المقال بلغة حداثية لنعرف الفرق بين لغة (جماعات الإسلام السياسي) وقاموسهم اليومي ولغة (مجتمعات المواطنة الحديثة) وقاموسهم وصولاً (للمواطنة الرقمية).
لنقرأ (الحق في التنمية) والإعلان عنه الذي اعتمده العالم عام 1986... ثم نعرج بالقراءة على اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة التصحر، وإعلان سنة 2006 سنة دولية للصحارى والتصحر وتعزيز التضامن الدولي المتولد عن ذلك، ولنختم بقراءة في (التنمية المستدامة للجبال) وبموجبها كان عام 2002 سنة دولية للجبال، مع اغتنام الفرصة التي يتيحها (اليوم الدولي للجبال) في 11 ديسمبر من كل عام، وربطها ببند (التنمية المستدامة)، وأخيراً قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن (اليوم العالمي للسعادة) حيث تسعى فيه (الدولة الحديثة) إلى تحقيق السعادة والرفاه في سياق التنمية ليستعان بها في توجيه سياساتها العامة.
هل عرفتم الفرق؟! هل يحتاج أحد القرَّاء إلى تنشيط ذاكرته بأيام تخلفه (الفكري) ليرى مثلاً في الحديث عن (أسبوع الشجرة) ثرثرة فارغة تصل إلى استبطان (التحقير) لمن يتحدث عنها في (خطبة الجمعة) مع (التكبير) للواعظ الذي يختمها بدعاء التدمير للبشرية (الكافرة) فلا يستثني طفلاً أو شيخاً كبيراً وامرأة.
هل يستطيع المواطن أن يساعد غيره في التخلص من (السموم الفكرية) في (جسده الاجتماعي)؟ نعم بأن يقرأ (وثيقة برنامج جودة الحياة 2020) فإن لم يستطع المواطن الاطلاع على (231 صفحة)، فلا أقل من الموقع الإلكتروني (رؤية 2030).
هل هذا مقال (تعبوي) لمواطن في وطنه؟ لا ليس كذلك، فالوطن بحر لا تزيده (قطرة) أو تنقصه، بل هو (تصحيح مسار لبعض العقول) المشغولة بقاموس قديم ظنناه مات.
البعض يرى أن (الحداثة والتقدم يمكنها أن تتبلور بواسطة قيم أخرى غير القيم اليهودية والنصرانية الغربية) مستشهداً باليابان والصين وغيرهما، لكنه تناسى أن القيم (اليهودية والنصرانية) على المستوى البنيوي تتطابق مع قيمنا الدينية في (العنوان العريض/الإبراهيمية) وتختلف في (بعض) التفاصيل مقارنة بقيم الدول (اللاإبراهيمية/الوثنية).
والسباق الحضاري هنا ليس سباقاً (نظرياً) بين (قبيلة المثقفين) فتراهم (يتمرجحون) على بعضهم بأدبيات (ما بعد الحداثة) على رأس الحداثي منهم، وأدبيات (الحداثة) على رأس التقليدي فيهم، فهذا (التموضع الانتهازي) للحصول على وقار من جمع (الأصالة والمعاصرة) بدأت أتفهمه - دون تثريب -على (جيل ما قبل الإنترنت) بمختلف فئاتهم العمرية، فانتهازيتهم (غريزة طبيعية في كل الثدييات لتجنب الخطر، وليست موقف فكري حر)، فلن نُحمِّل مثلاً عبدالوهاب المسيري أكثر مما يحتمل على سقفه الفكري المقيد بفضاءات (عصره الذي عاشه/ دماء فرج فودة 1992، محاولة اغتيال محفوظ 1994، تكفير نصر أبوزيد ومحاكمته وتفريقه عن زوجته ثم هجرته 1995) لتأتي فكرته (ابنة زمنه) في (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة/2002) كنوع من الموقف البطريركي للمسيري في (تجغيم المجتمع) (جغمة/ رشفة) من العلمانية مبنية على وجهة نظره في (طفولة المجتمع) وقدرته على الهضم دون الاقتراب من (حد السكين)، غافلاً عن تقارير التنمية البشرية التي كانت تصرخ بأعراض مزمنة عن الفئات العمرية الشابة مع (البطالة، الفساد... الخ) التي لا تحتمل (انتظار التنمية) وكان الإسلام السياسي يستثمر هذه الأعراض في زيادة أتباعه طيلة عقود، حتى ما يسمى (الربيع العربي 2011م) الذي لا ننكر أنه فاجأهم بجموحه، فلما استوثقوه ركبوه باللسان والسنان، وصولاً للحرب الأهلية ولا تزال عقابيله حتى الآن.
أما الحداثيون (الآمنون) الذين يعانون من (متلازمة ستوكهولم) فأصبحوا (حداثويين لا إرادياً) رغم زوال الإرهاب الأصولي على مختلف مستوياته من (الإرهاب الاجتماعي المعنوي إلى سفك الدم) فلا تثريب عليهم، باستثناء من يصر على أنه فوق (الأمراض النفسية) لتبعات أربعين عاماً من سطوته على حياتهم؟!
نقلا عن الوطن السعودية