بقلم ملحة عبدالله: الفلاسفة المسلمون والنحت الغربي
الغربة التي نستشعرها في الخطاب النقدي العربي -التي تؤثر في الفكر العربي عامة- هي غربة المصطلحات والمفاهيم، بالرغم من ذلك الأنس الملموس في التراث النقدي القديم والتي تمتد بدورها في الفكر الغربي نفسه، فالمفاهيم النقدية الحديثة ما هي إلا وهج لتلك النظريات القديمة لدى النقاد والفلاسفة المسلمين على سبيل المثال، إذ إنها تأخذ ذلك الوهج وتستزرعه في تربة مغايرة فيأتي الخطاب غريباً غير آنس..
لعل ما يؤرق الثقافة العربية المعاصرة هي مشكلة الأنس الثقافي ومؤانسة المعرفة، ولا نستطيع القول إنها تكمن في فصل الجسر بين النخبة والعامة كما في الفترة القصيرة السابقة بعدما رأينا جيلا يسعى للالتحام والتهام المعارف بشغف في هذه السنوات الأخيرة. ذلك أن الجينات العربية مبدعة كامنة إذا ما بحثنا عن بريقها وأزحنا الغواشي الملغزة عنها، ولذا يتوجب أن يكون الخطاب النقدي أنيسا ومستأنسا، لأنه نبع من طينتنا، فالمصطلحات والمفاهيم التي وردت في النظريات الغربية الحديثة هي وهج لما سبق.
ومن هنا نستطيع القول إن الغربة التي نستشعرها في الخطاب النقدي العربي -والتي تؤثر في الفكر العربي عامة- هي غربة المصطلحات والمفاهيم، بالرغم من ذلك الأنس الملموس في التراث النقدي القديم والتي تمتد بدورها في الفكر الغربي نفسه.
إن المفاهيم النقدية الحديثة ما هي إلا وهج لتلك النظريات القديمة لدى النقاد والفلاسفة المسلمين على سبيل المثال، إذ إنها تأخذ ذلك الوهج وتستزرعه في تربة مغايرة فيأتي الخطاب غريبا غير آنس، وافداً نبتلعه كحبات (الأنتي بويتك). ولذلك كان يجب على النقاد العرب البحث والاستقصاء التنظيري في النقد العربي ومفاهيمه، لأنهم أسسوا به للخطاب النقدي العام لكي يشعر المتلقي العربي بالأنس والمؤانسة. فالأنس موجود في ثنيات النظريات العربية القديمة، إلا أننا نشعر بالانجذاب للخطابات الغربية ولكنها لا تزال تشعر المتلقي بالأنس المفقود.
والأنس أو المؤانسة الثقافية هما ما يدفع النقاد بشكل عام للتنظير، فما هما إلا وسيط بين المرسل والمتلقي؛ فذلك الوهج التنظيري لدى الفلاسفة المسلمين نجده يمتد -بشكل أو بآخر- في مقولة دريدا وفوكو وبخين وغيرهم. فحينما ندقق النظر في مقولة كل من الفلاسفة المسلمين ورأي (جاك دريدا) عن هوية الذات نجد أنه يرى أنه لا بد من التخلي عن التعارضات، أي أنه لا بد لفهم العالم من خلال تلك التعارضات أو الاختلافات بحيث أننا لا بد أن نجرد الشيء من أي تعارضات تتعرض له بشكل عنقودي مسلسل ليتضح الشيء بعد إزالة تلك العوارض أو الاختلاف وهو العودة للبكر. فالطرف الأول يسبق الطرف الثاني كما يرى أن هناك أطرافا ثانوية من قبيل الغياب والاختلاف فيضع نهاية لنسق التعارضات. فبإظهار التعارضات يمكن الوصول لمفهوم التأسيس الأصلي. "الاختلاف مثلا بالنسبة للهوية هو في حقيقة الأمر أسبق وأشمل.. فالاختلاف ليس مشتقا من الهوية بل الاختلاف على الأصح هو ما يجعل الهوية ممكنة".
ثم يقول مشيل رايان في هذا الشأن: "إن كل مفاهيم التأسيس foundation أو الأساس ground أو الأصل origion ينبغي إزاحتها بالطريقة نفسها؛ ذلك أنها في حقيقة الأمر نقاط تتموضع في أنساق وسلاسل وحركات أكبر يصفها (دريدا) -في الغالب- باستخدام مصطلحات هي في العرف الفلسفي مجرد عناصر ثانوية ومشتقة مثل الاختلاف والكتابة".. هذه التعارضات أو الاختلافات التي تعتري الأساس يجب إزاحتها لكي تدرك الماهية هي أيضا وردت عند الفلاسفة المسلمين فنجد الإدراك الحسي لديهم لا يتأتى إلا بإزاحة تلك التعارضات التي أسموها بالغواشي، وعلى هذا نجد قولهم إن: "الحس الظاهر لا يستثبت الصورة بعد زوال المحسوس فهؤلاء يعملون بدون مؤثر خارجي ذلك أنه ينال الشيء من حيث هو مغمور في العوارض التي تلحقه بسبب المادة التي خلق منها؛ لا مجردة عنها ولا يناله إلا بعلاقة وضعية بين حسه ومادته أي أنه يدرك الشيء وقد لحقته غواشٍ غريبة عن ماهيته؛ لو أزيلت عنه لم تؤثر في كنهه وماهيته.. ولهذا لا تتمثل في الحس الظاهر صورة الشيء إذا زال هذا الشيء. وهو هنا يُقصَد بالغواشي والتعارضات. فالحس الظاهر أو الإدراك للشيء لا يمكن إلا إذا أزيلت عنه عوارضه؛ إلا أن نزع هذه العوارض عن مادتها قد يكون أمرا شبه مستحيل عند ابن سينا فيقول: "تأخذ الصور عن المادة مع هذه اللواصق ومع وقوع نسبة بينها وبين المادة، إذا أزيلت تلك النسبة بطل ذلك الأخذ وذلك لأنه لا ينزع الصورة عن المادة من جميع لواصقها، ولا يمكن أن تستثبت تلك الصورة إن غابت المادة، فيكون كأنه لم ينتزع الصورة عن المادة نزعا محكما بل يحتاج إلى وجود المادة أيضا في أن تكون تلك الصورة موجودة له. إذا فالحس الظاهر يكون في هذه الحالة عاجزا عن إدراك الصورة لأنه لا يستطيع تجريدها عن مادتها وإنما يمكن أن يدركها الحس الباطن الذي يرى الصورة والمعنى معا".
وبما أن دريدا قد لجأ إلى مصطلح الاختلاف المرجئ وقد اعتبره أسبق من الجوهر في الحضور هو المبدأ الأساسي في فكره عن الهوية والذات، فهو يراه أنه لا يمكن أن يصل إلى الأساس لأنه لا يمكن فصل الذات عن تلك الاختلافات فيقول: "لا يتمتع الاختلاف المرجئ بمنزلة الأساس ولا يمكن له أن يلعب دور مبدأ أصل أول تأسس عليه نسق فلسفي والسبب أنه يبطل أي هوية ذاتية غير مختلفة وهي المقدمة المنطقية الضرورية لأي أساس".
فالاختلاف هنا هو ما يبطل الهوية لدى دريدا لأنه لا يمكن عزل الأساس عن الخلاف أو الاختلاف وبهذا يتفق هذا القول مع فكر الفارابي وابن سينا حين يرون أنه لا يمكن الإدراك الظاهري للمادة لأنه لا يمكن عزلها عن لواصقها وهو ما يؤكده أيضا دريدا عن الهوية الذاتية في قوله: "كي توجد هوية ذاتية عليها أن نفترض سلفا عن اختلافها عن تلك. الاختلاف والهوية إذا يرتبطان ارتباطا كونيا، فكلاهما يكمل الآخر -تبادلا- بكيفية تحول دون انقسامهما انقساما "تعارضيا ترابطيا صارما".. وسوق الأمثلة يطول في مثل تلاقح الوهج القديم مع الحديث، إلا أن السابق مستنبت منا ومن فكرنا الذي نشأت عليه الثقافة العربية وبذلك نجعل الأنس الثقافي العربي في خاصرة الوعي بعيدا عن تلك الغربة في التعاطي.