د. عبير فاروق تكتب: الصراع الصيني الأمريكي.. لمن الهيمنة؟!!
تتطلب
معرفة مكانة أي قوةٍ كبرى في النظام الدولي الوقوف على تاريخ هذه الدولة الذي أسهم
في بناء هذه المكانة، والصين -باعتبارها قوة كبرى- يقتضي الأمر معرفة أبرز المحطات
الفاصلة في تاريخها، وصولًا إلى قيام جمهورية الصين الشعبية عام 1949 بعد انتصار
الثورة بقيادة (ماو تسي تونغ) زعيم الحزب الشيوعي الصيني والمؤسس الفعلي والحقيقي
لهذه الجمهورية الفتيِّة، التي وصلت في بضع عشراتٍ من السنين إلى مصاف أهم دول
العالم، بل إنها أصبحت تنافس الولايات المتحدة اقتصاديًّا على المكانة الأولى في
العالم.
تشغل
الصين مساحة 9.6 ملايين كم مربع تقريبًا، وهي -بذلك- تحتل المرتبة الثالثة في
العالم من حيث المساحة بعد روسيا وكندا، ويبلغ تعداد سكانها 1.412 مليار نسمة
(2021)، وتقع الصين شرق آسيا، حيث تنتشر حولها مجموعةٌ من الدول القوية اقتصاديًّا
وسياسيًّا وعسكريًّا قد تتقارب من القوة الصينية أحيانا، فروسيا، وكوريا الجنوبية،
واليابان يقعون في الجوار الشمالي والشرقي لدولة الصين، والهند تحيطها من الغرب
والجنوب، ولهذه الدول استثمارٌ عالمي وأدوارٌ سياسيةٌ عالميةٌ مؤثرةٌ في التفاعلات
السياسية الدولية والإقليمية، كما تدور في فلك كلٍّ منها مجموعةٌ من الدول الصغيرة
المجاورة، وتتجاذب النفوذ فيها مع دولة الصين مثل: مينانمار، وتايوان، والنيبال،
وفيتنام، وكمبوديا، وبعض جزر البحر الصيني.
وهناك
قضايا ومشكلات سياسية، واقتصادية، وعرقية، حيث كانت الصين قوةً مؤثرةً لفتراتٍ
طويلةٍ من التاريخ، ثم انكمش سلطانها بسبب أوروبا واليابان في القرن التاسع عشر
وفي القرن العشرين، إلا أنها استعادت قوتها واستقلالها تحت حكم الحزب الشيوعي الذي
استلم السلطة عام 1949، وفي القرن الواحد والعشرين، ارتفعت مكانتها الدولية بسبب
القفزة الاقتصادية والتجارية التي حققتها، وأصبحت ظاهرةً من ظواهر العولمة مع
استمرار تمسكها بالحكم المركزي تحت قيادة الحزب الشيوعي الصيني.
لقد أصبحت الصين من أكبر الدول الصناعية في القرن الواحد والعشرين؛ وبالتالي أصبحت أكبر مُصدِّرٍ في العالم وثاني أقوى قوةٍ اقتصاديةٍ بعد الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى صعيد بنيتها الاجتماعية يتشكل المجتمع الصيني من 56 قومية مختلفة، أكبرها قومية "الهان" التي تمثل94%، بينما تتوزع الـ7% المتبقية على جماعاتٍ إثنيةٍ مختلفةٍ "كالتبتيـين"، و"المانشوس"، و"اليوغروس"، و"الويغور" إضافةً إلى جماعة "زونغ"، وهذا ما جعل الصين تتميز بنزاعاتٍ إقليميةٍ وتناقضاتٍ ثقافية، ويمكن القول إن التعدد هو عامل قوة الهوية التي تميز بها المجتمع الصيني المعاصر، ويضم من الناحية اللغوية الكثير من اللغات واللهجات، ومن الزاوية الدينية يضم المجتمع الصيني العديد من الديانات والمعتقدات، أما على الصعيد الأمني الإقليمي تؤكد الصين دائمًا على أن تايوان جزءٌ لا يتجزأ من وحدة الأراضي الصينية.
وتعتمد الصين في إقامة علاقاتها الدبلوماسية مع دول العالم على أساس التزام تلك الدول بسياسة صين واحدة، أما بالنسبة لليابان فإن موقفها من هذه القضية متباين؛ حيث نجدها من جهةٍ تعرب عن احترامها الكامل لموقف الحكومة الصينية حول كَوْن تايوان جزءًا لا يتجزأ من أراضي جمهورية الصين الشعبية، وتعترف بأن حكومة جمهورية الصين الشعبية هي الحكومة الشرعية الوحيدة في الصين، وتلتزم بالوثائق السياسية الثالثة للبيان الصيني الياباني المشترك عام 1972، ومعاهدة السلم والصداقة الصينية عام 1978، والإعلان الصيني الياباني المشترك عام 1998، ومرةً أخرى تؤيد محاولات تايوان للانضمام إلى الأمم المتحدة. ومن جهة أخرى تظهر -بين الحين والآخر- تصريحاتٌ لمسؤولين يابانيين تُبيِّن أن تايوان دولةٌ مستقلةٌ، ومن الجدير بالذكر أن اليابان استولت على تايوان عام 1895، واستمر احتلالها لها مدة 51 عامًا.
ولا تزال الصين تتنازع فكرة إعادة إقليم تايوان
من النفود الأمريكي، وتعتمد في عودة هذا الإقليم ذات الاقتصاد الرأسمالي على مفهوم
دولةٍ واحدةٍ ذات نظامين، حيث تتوافق الرؤية الصينية مع المتغيرات العالمية في ظل
نهج العولمة، الذي يدفعها للانفتاح على العالم الخارجي الرأسمالي عبر بوابتي هونغ
كونغ وتايوان باقتصادهما، بينما يركز المنظور الصيني على الولايات المتحدة التي
يراها الصينيون تسعى إلى تقيد "التنين" من خلال تحالفها العسكري مع
اليابان، ومن خلال الإمدادات العسكرية التي تقدمها إلى تايوان، ووجودها الطاغي في
آسيا، وتشجيعها على الانفصالية في تايوان والنرويج تحت مسمى "تطور
سلمي"، من شأنه أن يدمر احتكار الحزب الشيوعي الصيني للقوة السياسية في
الجانب العسكري.
ومن ناحية القدرات النووية نجد أن الصين التي دخلت النادي النووي عام 1964 تُعَد اليوم أكبر قوةٍ عسكريةٍ في آسيا، ولها قوة نووية بإمكانها أن تكون رادعةً للولايات المتحدة الأمريكية، وتتنوع علاقات الولايات المتحدة مع كل دولةٍ على حدة، كما هو حال علاقاتها مع كلٍّ من الصين والهند. ولأسبابٍ استراتيجيةٍ، واقتصاديةٍ، وتاريخيةٍ كثيرة يوجد لدى الولايات المتحدة الكثير على المحك في الصين، إضافة إلى العديد من نقاط الصراع أيضًا وأهمها تايوان. وقد تزايدت قوة الصين القومية بصورةٍ مذهلة –وخصوصًا- بمؤشراتها الاقتصادية، كما أن لديها تقليدًا طويل الأمد من التفكير الاستراتيجي، وتتمتع بصورةٍ ذاتيةٍ عن كونها القوة المسيطرة في آسيا رغم نفيها المعلن إلى طموحٍ للهيمنة، كما أن مذهبها المسمى بـ"الصعود السلمي" مُقنِع، ويقوم على تطوير الذات، وتجنب الصراعات إلى أقصى حدٍّ ممكن، وربما يمكن القول إن دبلوماسيتها هادئة وغير صاخبة.
أمام
كل هذه التفاعلات السياسية والثقافية الداخلية والخارجية ومع الجوار، يبقى الرهان
على أن محددات المكانة المستقبلية للصين -فى عدة متغيراتٍ رئيسية- تتوقف على
النفقات الدفاعية، والقطاع العام من حيث مدى الاعتماد عليه أو مدى الاستغناء عنه،
والفساد الإداري، والحزب الشيوعي ودوره، والخيار الشيوعي ومستقبله.
وهناك
على رأس جدول الاهتمامات السياسية، والأمنية، والعسكرية، القضية التايوانية،
فالولايات المتحدة تعمل -بشكلٍ أو بآخر- على تطويق الصين، والحد من نموها وخاصةً
في المجال العسكري والاقتصادي. وإلى جانب الخلاف المستمر فيما يتعلق بملف تايوان
فإن الولايات المتحدة الأمريكية تدعم انفصال تايوان؛ وهو الأمر الذي تُعدِّه الصين
تجاوزًا بالإضافة إلى التوترات الحاصلة بين الطرفين بشأن منطقة "التبت"
وما تعانيه من حال انتهاكٍ لحقوق الإنسان، التي تريد بعض القوى الغربية استخدامه
لممارسة مزيدٍ من الضغط على الصين، وتعزيز الحملات من أجل استقلال تايوان عن
الصين، وتدويل قضية التبت للضغط على الحكومة الصينية.
ويثير الدعم الأمريكي العسكري لليابان والهند حفيظةً الصين، حيث انتقدت بكين زيارة "بيلوسي" رئيسة مجلس النواب الأمريكي لتايوان، وأكدت وزارة الخارجية الصينية فى بيانٍ لها أن الزيارة سيكون لها تأثيرٌ سلبيٌّ على العلاقات بين البلدان، وأن الصين ستتخذ كل الاجراءات لحماية سيادتها؛ ردًّا على الزيارة الاستفزازية لبكين، ثم أطلقت بكين مناوراتٍ عسكريةً فى المجالات الجوية والبحرية المحيطة لتايوان؛ ردًا على زيارة البيلوسي لدعم تايوان فى أغسطس 2022؛ مما أدى هذا التهور الأمريكي إلى صراعٍ غير مباشرٍ بين الطرفين وخاصةً بعد موقف الصين من روسيا فى الحرب الروسية الأوكرانية؛ إذ ترى أنه مُوجَّه ضدها في الأساس، ويهدف إلى تحجيم تقدمها.
ويبدو أن الصين تمثل أكبر التحديات للولايات المتحدة في القرن الحالي، كون المرجح أن الولايات المتحدة والصين هما قطبي القوة –وخصوصًا الاقتصادية- في القرن الحالي، وأن طبيعة العلاقات بينهما هي التي سوف تحدد طبيعة النظام الدولي بمجمله في الفترة المقبلة.