راندا الهادي تكتب: للبيع!!
هل نظرتُم يومًا ما في عيون مَن يهجرُهم
أحباؤهم؟! هل أدركتُم هذا الضياعَ القابع وراءها؟! هل صادفتُم مَن ساقتهم الظروفُ
لبيع ممتلكاتهم؟! هل لمحتُم دمعةً أو شبَحَ ذكرى كانت يومًا مسرّتَهم في هذه
الحياة؟! هل جربتُم قسوةَ لوحةٍ كُتِبَ عليها (للبيع) على منزل طفولتِكم؟! مهما
تعددت الأسباب، يظل التخلي عن شيءٍ كان يخصنا يوما ما _ برضانا أو بدونه _ مأساةً
لا يشعر بها إلا من جرَّبها!!
هذه المعاني القاسية والآثار الغائرة
للتخلي، لم تقفز إلى ذهني فجأة، وإنما جربتُها مع كلماتِ إحدى صديقاتي عن عرض منزل
جَدتها للبيع، حيث كانت تحدثني بكل براءة وتقول: نحن لا نبيع منزلا، نحن نبيع
لياليَ دافئةً بجَمعة الأحبة، ضحكاتٍ رائقةً خلف الجدران، حكاياتٍ عامرةً بالحُب
والأُنس والنجاح، سَكبتها جدتي في أسماعنا عبر سنوات ربيعنا، بل نبيع قرصَاتٍ
للأُذُن آلمتْنا وقتَها، لكنْ علّمتنا أسمَى القِيمِ والصفات، لقد خسِرَ البيعُ
بلا شك!!
ورغم مواساتي لها بأن الحياة لا تتوقف عند
أحد، وغدًا سيكون لكل واحد منكم مملكتُه الخاصة، وعُمْرٌ من الذكريات، آلمني
إدراكُها لمعنى التخلي على هذا النحو، وآلمني أكثر أن وصفَها صادقٌ مائة بالمائة؛
فالتخلي عند علماء النفس يُولِدُ جُرحًا لا يمكن رؤيتُه؛ فهو جِذرٌ مُمزَّق، رابطٌ مقطوع، طُمأنينةٌ
مُفتقدة. والتخلي درجات، لعل أقساه الغيابَ الجسدي لأحباء ملؤا حياتنا يومًا ما،
إما بالرحيل عن هذه الدنيا، أو بالرحيل عن حياتنا على هذه الدنيا!! وهنا يتسيد الموقفَ مشاعرُ الإهمال واللامبالاة
والبرود.
ويؤكد علماءُ النفس أن عملية التخلي _ بصفة
عامة _ ينجم عنها شعورٌ قويٌّ بالفراغ، ليس له عمر، يُدركه الأطفال، ويُدمر
البالغين، ورغم أن السائد في معتقداتنا أن إدراك أي قيمة لا يكتمل إلا بالتخلي، نشير هنا إلى أنه مع كل غياب
نفقِد جزءًا من أنفسنا، حتى نموت ونحن على الأرض مازلنا نتنفس؛ لأنه ببساطة
الاستغناء _ مضطرا أو برضاك _ أمرٌ قاسٍ على النفس البشرية؛ فالإنسانُ جُبِلَ على
التعلق والارتباط، لذا كان الموتُ أصعبَ مصيبةٍ على الأرض فهو فِراقٌ لحيواتٍ
تعلقَ بها، وأناسٍ تركوا بصماتِهم في شخصيته قبل حياته. يقول(مصطفى صادق الرافعي):
(يَمُوتُ الحيُّ شيئًا فشيئًا، وحِينَ لا يَبْقَى فِيه مَا يَمُوت، يُقَالُ:
مَات)!!!
ورغم أن الارتباطَ بالبشر أقوى بكثير من
الأشياء المادية، إلا أن الأخيرة فِراقُها مؤلمٌ أيضا، لأنها تضم بين طيَّاتها إما
ذكرياتٌ لأشخاص، أو أوقاتٌ عِشناها، وفي الغالب نتمنى مُعايشتَها مراتٍ ومرات.
لذا كان من الصعبِ علينا تركُ بيتِ العائلة،
أو تغييرُ محل إقامتِنا، أو اتخاذُ قرار السفر وبدءِ العمل في مكانٍ آخر، لأن
جميعَها قراراتٌ مصيريةٌ لا تُغيِّرُ شكلَ حياتِنا فقط، بل تنحَتُ آثارَها بآلةٍ حادة
في ذواتِنا وشخصياتِنا فلا نعود كما كنا أبدًا.
إذن: هل من علاج، أم استعصى الداء على
الأطباء؟! يرى المتخصصون أن علاج جُرح التخلي يكون بإيلاء اهتمام خاص لتقدير
الذات، والقدرة على التسامح، لتحرير أنفسنا من الماضي، ويُشبِّهُها علماءُ النفس
هنا ببالون أسود يجب على المرء أن يقطعَ خيطَه ويسمحَ له بالرحيل.
ولعل في الإيمان بالله وقدَرِه طوقَ النجاة
مما قد يترُكه التخلي من بصماتٍ قاسية على ذواتنا .. لذا أيها القارئ: إذا مررتَ
يومًا بيافطة (للبيع)، هدِّئِ الخُطُواتِ واعتَبِر.