حازم البهواشي يكتب: بين الصمت والكلام
للكلام شهوة لا تخطئها أذن، ويا حبذا إن كان
في الأعراض، تتفتح العيون حتى تصبح كعيون المها، وتسمع الآذان بقوة كما الدلافين،
وتلوك الألسن الكلمات كأنها تأكل أشهى المأكولات.
قالوا قديمًا: إن المرء لا يندم على السكوت
لكنه يندم على الكلام، فأصبح الوضع معكوسًا؛ إذ يلوم البعض نفسه على السكوت، رغم
أنه الأسلم!
دار هذا الحوارُ بين الصمت والكلام ( ولا
عليكم أن الصمت يتكلم )!!
قال الصمت: من تحلّى بيَ سلِم.
قال الكلام: من تحلّى بيَ غنِم.
قال الصمت: من تخلّى عنيَ ندِم.
قال الكلام: من تخلّى عنيَ عدِم.
قال
الصمت: إنيَ الحكمة،
قال الكلام: وأنا الفطنة.
قال الصمت: السكوت علامة الرضا.
قال الكلام: والحديث يُبين الرضا.
قال الصمت: الكلام عُدوان.
قال الكلام: والصمت خُسران. قال الصمت:
حَسِبْتَني أصمُتُ عِيًّا ورهبة؟!
قال الكلام: وأنت حَسِبْتَني أتكلمُ رغبة؟!
قال الصمت: السكوتُ صفة الرجال.
قال الكلام: والنطقُ من أشرف الخصال.
قال الصمت: في الكلام آفات.
قال الكلام: وفي السكوت لحُلو المنطقِ موات.
قال الصمت: أنت سببُ الجنايات.
قال الكلام: وأنت تَضِيعُ معك الحقوقُ
والواجبات !!
عزيزي القارئ: مهما طالت المناظرة بين
الطرفين ( الصمت والكلام ) فلا يمكن لأحدهما أن ينتصر على الآخر؛ إذ الكلامُ
بالخير أفضلُ من الصمت، والصمتُ عن الشر أفضلُ من الكلام، ومَن مدحَ الصمتَ فإنه
ينظرُ إلى مَن يُسِيءُ الكلام، ومَن مدحَ الكلامَ فإنه ينظرُ إلى مَن سكتَ عن
الحق، وصَدقَ خيرُ البرية إذ يقول: ( رَحِمَ اللهُ عبدًا قال خيرًا فَغَنِمَ، أو
سَكَتَ عن سُوءٍ فسَلِمَ ).
جالستُ شيخًا كبيرًا فحدثني مِن خبرته في
الحياة حديثًا تُنصتُ له القلوبُ قبل الآذان، قال: ( يا ابني كنت في شبابي، أتكلم
عن كل الناس ولا يهمني، أسخر من كل الناس ولا يرمش لي جفن، لكن كله سلف ودين، وهو
ده مختصر الحياة، كله سلف ودين، وما تسواش الدنيا حاجة لما تكبر وتقابل واحد ولا
واحدة، فتوطّي راسك في الأرض )!!
يقول عبدُ الله بن بريدة ( من التابعين رواة
الحديث " 15 هـ : 115 هـ ": (رأيتُ ابنَ عباس _ رضي الله عنه _ آخذًا
بلسانِه وهو يقول: ويحك، قل خيرًا تغنمْ، أو اسكُتْ عن سُوءٍ تسلمْ، وإلا فاعْلَمْ
أنك سَتندم).
ويُروى أن رجلًا من العلماء قال في حضرة عمر
بن عبد العزيز: (الصامتُ على عِلم كالمتكلم على عِلم، فقال عمر: إني لأرجو أن
يكونَ المتكلمُ على عِلمٍ أفضلَهما يومَ القيامةِ حالًا؛ وذلك أنَّ مَنفعتَه
للناس، وهذا صمتُه لنفسِه، فقال له: يا أميرَ المؤمنين وكيف بفِتنةِ النطق؟ فبكى
عمرُ عند ذلك بكاءً شديدًا).