الجزائرية فضيلة ملهاق تُحيي حقيقة المرأة وهي "رميم"!
بحسب علم المنطق فإن المقدمات تقود للنتائج، إلا أن الكاتبة الروائية
الشاعرة الجزائرية د. فضيلة ملهاق الآتية بإبداعات تسبق زمانها وتتجاوز مكانها، تقلب
كل قواعد المنطق فتهدم المقدمات وتتحرر من قيود النتائج، فارضة منطقها ولغتها الساحرة
التي تصنع بها الدهشة وتعكس قدرًا مهولًا من اشتعال القلق والفكر والبحث برأسها.
حالة إبداعية متفردة بالغة الخصوصية، تستند إلى تكوين عميق تجمع صاحبته
بين دراسة الرياضيات والطبيعة والعلوم والقانون والدبلوماسية، والإلمام بمختلف الثقافات،
وكذا اللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والأمازيغية والإسبانية، مع شغف بالفلسفة
والإبحار بوعي في الثقافة اللاتينية والأساطير اليونانية القديمة، مع الانفتاح بنضج
على الأديان كلها مع مسحة صوفية لتدين مستنير بلا تزمت. بهذا التكوين النادر المختلف
تصنع ميثولوجيا أدبية إبداعية بالغة الواقعية بنفس سردي عالمي، ينطلق من عمق التجارب
الجزائرية المحلية بناسها وأحداثها، متجاوزة الحدود الجغرافية المصطنعة، لتتماهى تجاربها
مع عوالم الشوارع والحواري والبيوت والقصور العربية، التي شيدت منها عالمها الروائي
الخاص بسحره وتفرد معانيه وتعدد قراءاته، ورغم ذلك تمعن الكاتبة في إخفائه كخبيئة أثرية
ثمينة، بعيدًا عن عيون القراء والنقاد والإعلام بامتداد الوطن العربي وكأنها تكتب لنفسها،
وتكتفي بذاتها!
تلك مقدمة لابد منها قبل الولوج في عالم روايتها "رميم" إذا
قدمت فضيلة ملهاق خلال أكثر من عشرة أعوام روايات منها : “ذاكرة هجرتها الألوان” ولعنة
اليربوع” و” رميم” و "حينما تشتهيك الحياة"،
ومجموعات قصصية منها: “الطباشير ” وخارج مجال التعرية” و” للعرض..غير قابلة للرسم”
“ ومجموعات شعرية منها: “مارد من عصر الحجر”،” “قهوة باردة”، “ “سبورة أفلاطون”، “الفيفا
تستحم في الجزيرة”، “امقورش في الجامعة”، “المذبوحة والمسلوخة.. والمقطعة”، “رائحة
البرميل”، “حُزنك أكبر منك ومنّي”، وهي حاصلة على درجة الدكتوراه في القانون وشهادة
المدرسة العليا للقضاء وشهادة عليا في الدبلوماسية، وشهادات عليا عدة من الجزائر والخارج،
لاسيما في مجالي فضاء المعلوماتية والقانون الدولي الإنساني.
نحن أمام مبدعة من العيار الثقيل، اسم تأخر تقديمه كثيرًا للقراء والنقاد، فعلى عكس المؤلفين الذين
يحرصون فور صدور باكورة أعمالهم - بغض النظر عن قيمة تلك الأعمال – على الترويج لها
والتهافت على الإعلام لتسليط الضوء عليها، والانخراط في ندوات وأمسيات ثقافية وحفلات
توقيع للتعريف بهؤلاء الكتاب وبتلك الأعمال، فإن الدكتورة فضيلة ملهاق تمعن في التخفي
كراهبة في محراب الأدب وفضاء الإبداع الأدبي الرحب، إذ تؤمن أن مخاطبة القارئ لا يجب
أن تأتي بالإلحاح عليه أو فرض العمل عليه فرضًا، وأن التقدم للقراء بأكثر من عمل أدبي
كفيل بخلق حالة من الشفافية في التعامل مع الجمهور "يكون للقراء كامل الحرية في التلقي والتفاعل
من خلال أعمال مختلفة وليس عمل واحد، ويكون
لي بذلك فرصة التفكير بهدوء فيما أقدمه وما أنوي الإقدام عليه، الاستمرار في النشر ومشاطرة أفكاري أم الاكتفاء بمفكرتي، وهذا أحد أسباب تركي مسافة بيني وبين الإعلام
لفترة طويلة" بهذه الكلمات أوضحت الكاتبة موقفها وسبب تأخر تقديمها للقراء في
حوار تلفزيوني مؤخرا، بعد سنوات من الكتابة في صمت.
سيدة الحروف والمعاني عاشقة التفاصيل، تنتج الشعر والقصة والرواية بالإجادة
نفسها، وعن روايتها "رميم" الصادرة
عام 2019 عن دار هاشيت أنطوان –نوفل- ببيروت في مائتي صفحة من القطع المتوسط قالت:
" هي رواية جزائرية بنكهة محلية وبعد إنساني عالمي، مستمدة من البيئة الجزائرية،
وتعالج العلاقات في المجتمع، علاقات المرأة بالرجل، الأخ بالأخت، الزوج بالزوجة، كما
تعالج حالة تستحق الالتفاتة، وهي الإعاقة الجسدية، باعتبار بطلة الرواية الأم عتيقة
تعرضت لإعاقة جسدية أربكت حياتها ونهشت عظامها وهشمت حلمها واستقرارها، ودفعت زوجها
سليمان لجلب ضُرة أو زوجة ثانية هي شابة جميلة تصغرها بسنوات كثيرة في العمر، ورغم
ذلك تظهر الرواية الصورة الحقيقية للمرأة الجزائرية كإمرأة مكافحة تحافظ على البيت
والمجتمع، وتأخذ زمام الأمور بيدها، فهي ليست امرأة شكاءة ولا بكاءة، بل قوية مقدامة
معطاءة عند اللزوم".
نسجت الروائية روايتها "رميم" من حكايتين بالتوازي، إذا جمعت
بنسيج سردي متخم بالوصف بين حكاية أسطورية تتأملها الراوية وتستدعيها الكاتبة باستمرار،
وتقف ملهاق في منطقة وسطى بين الحكايتين شاهدة على الأحداث، راوية لها، محركة وفاعلة
في تفاصيلها، وكعادتها بنت شخصيات الرواية بعناية فائقة، ابتداءً من اختيار الأسماء
وانتهاءً برسم خطوط التطور الدرامي للشخصيات، فنحن أمام حكاية الأم عتيقة زوجة سليمان
الذي بدأت حياتها معه من الصفر وساندته إلى غاية أن أصبح رجلا ثريا. هي امرأة في خريف
العمر تتعرض لإعاقة جسدية تلزمها الفراش والكرسي المتحرك، ويتجاهلها الزوج وتشعر بالاغتراب
عن أقرب المحيطين بها، زوجها وأبناءها وبناتها، إلى أن تتعقد الأمور بين سليمان وزوجته
الثانية الشابة زينب الأصغر عمرًا والأكثر جمالًا، وتستعيد عتيقة قدرتها على المشي
بعد عمليات جراحية في الخارج، وفي وقت يصاب الزوج بالخرف والزهايمر، لتبدأ البطلة الأم
في حرب مواقع متبادلة في معركة حياتها ووجودها التي تكشف بها عن جوهر المعدن النفيس
للجزائرية أكثر من دفاعها عن بيتها ومملكتها.
الحكاية تتميز بالسرد المزدوج، بحبكة غرائبية مثيرة، ففصولها ومشاهدها تتغير في كل مرة، وتتغير معها بدايتها ونهايتها، والكاتبة تصنع من خلالها
الفارق في التناول حيث تبتعد عن المظلومية
النسائية في المجتمع الذكوري بامتياز، فهي لا تنحاز للمرأة ولا تقدمها كنموذج مقدس
معصوم من الذلل، ولا كنموذج يستحق التباكي والتعاطف، بل ثارت على هذه الأنماط النسوية
المكررة وحطمتها، وقدمت عالمًا من الواقعية السحرية البديعة، بنماذج حقيقية من لحم
ودم، في حالات صعود وهبوط، انتصار وانكسار، نماذج لا تملك أمامها إلا أن تصدقها وتتماهى
معها وتسابق الحروف والكلمات والسطور عبر الصفحات لتعرف مصائرها، خاصة الراوية مسعودة، وهي الطبيبة النفسانية التي تجد
نفسها تواجه واقعين، الواقع المعيش والواقع المتوارث من خلال الأساطير المتوارثة، والتي
تشكل الموروث من الذهنيات والأماني، ليكون
للرواية مجموعة من الأبطال، فهي لا تعتمد على نموذج البطل المحوري، وتقتحم من خلالها
الواجهات الأسرية وطابوهات العلاقات الزوجية، لاسيما من خلال علاقة الطبيبة مسعودة
بزوجها نعيم وعلاقة جمال بزوجته، وحكاية والعمة
زبيدة التي وقفت بقوة وإيجابية تتحدى المجتمع والعالم، تبحث عن سعادتها، رغم تقدم العمر
وتجارب الخذلان وقيود المجتمع الذكوري الرافض لزواجها، متمسكة بمقولة جان بول سارتر
في مسرحية "أبواب مغلقة": الجحيم هو الآخرون، نظرة الآخرين. "
تتبنى الكاتبة مفاهيم واضحة ولا تحاول أن تقحمها على البناء السردي المحكم
لروايتها، وإنما تطرحها كخيارات تنمو في جوراها شخصيات الرواية، مثل مفهومها للسعادة،
وعنه تقول ضمن أجواء الرواية:
السعادة الزوجية مجرد تمثيلية تتطلب اتقان الدور كي تستمر الحياة.
هل أنت حقًا سعيدة؟!
السعادة لا تعني لك فقط ثراءً، وجاهاً، وصعوداً إلى قمم المراكز والمناصب،
السعادة هي الإحساس بطعم الحياة، والطُّمأنينة، والراحة.. فأين أنت من كل ذلك؟
إلى متى تعيشين تلك الخدعة! تظنين نفسك فعلا مميزة وتستحقين الأفضل! أنت
امرأة بلهاء، مُغفّلة، خدعوك بقولهم لك “مبدعة”، “عبقرية”، “جميلة”.. لست فقط بلهاء،
بل أكثر من ذلك، لا دواء لكِ! تتحركين كما يتحرك جُرْم خارج نظام المجرّة، وتنظُرين
إلى عالمكِ، الذي لا يخلو من الزّيف عن عالم الآخرين، وكأنكِ إبرة ميزان الحقيقة. أفيقي،
الحقيقة ليست أنتِ!
الأم عتيقة تحدث أبنائها وتكشف عن جوهر المرأة الجزائرية ومعدنها الأصيل،
فور علمها بتدهور حالة زوجها سليمان وإصابته بالزهايمر تلوم أبناءها وتلوم نفسها قبلهم
فتقول:
"ألم أقل لكم الأنانية استفحلت بعائلتنا! لو اهتممتم به كما يجب
لما وصل إلى ما وصل إليه. لو أخبرتموني بحالته قبل أن تقع
الفأس في الـرأس... لكنكم منشغلون بمصالحكم."
وحين ترغب الزوجة الثانية زينب الانفصال عن الزوج سليمان الذي بات يهينها
ويتصرف معها بعنف تحت تأثير إصابته المتأخرة بالخرف يظهر هنا أيضًا جوهر عتيقة الزوجة
الأولى لسليمان وأم أبنائه، ففي وقت ينتقدها الابن عزيز لتعاطفها مع ضرتها زينب ترد
هي بكل نبل منتصرة لنموذج المرأة الذي تتبناه الرواية:
"عزيز": إلى هذا الحد أنت مستعدة لمواجهة الجميع من أجل هذه البومة
التي شتت عائلتنا؟
ردت عتيقة بلا تردد: إلى هذا الحد أنا مستعدة أن أجير امرأة ضعيفة لا
حول لها ولا قوة، "
تجيد الكاتبة الروائية فضيلة ملهاق فن الوقت ضمن إجادتها لفنون وعلوم
ومهارات أخرى كثيرة، فهي إن كتبت، جاءت الكتابة على مهل وبعد تأمل وبحث وتدقيق بالغ
في كل حرف واسم وتاريخ ومكان وزمان ومعلومة، وإن طهت فهي تطهو على نار هادئة لا تتعجل
الزمن ولا تستبق الأحداث، وتظهر رشاقة كتابتها وهي تنسج أفكار عميقة في الرواية من
خلال مشهد صناعة "المقروط" وهو نوع من الحلويات الجزائرية التقليدية واسعة
الانتشار في الأعياد والمناسبات، حيث تكرر المشهد مرتين، بمهارة وحبكة متقنة تصنع واقعين
مختلفين. فالروائية فضيلة ملهاق تعتمل في ذهنها شخوص روايتها وبنيتها السردية بتدفقها
الرائع، وتختار في خاتمة أحداث الرواية اسم مولودة سميرة السابعة "رميم"
، في إشارة إلى هشيم حال المرأة في كل زمان ومكان في مختلف المجتمعات التي تهشم وجودها،
وهي تطرح بكتابتها الأنيقة كفاح وصمود المرأة الجزائرية وهي "رميم" !