«ماتت في المحكمة».. مُسنة تفارق الحياة وهي تشكو للعدالة جحود أبنائها
"محكمة".. هكذا دوى صوت الحاجب فى المحكمة عقب دخول هيئة المحكمة، وطلب أطراف القضية رقم 25، على الفور دخلت إلى القاعة امرأة مُسنة في العقد الثامن من عمرها، تتكئ على عصا يبدو عليها قديمة بعض الشيء وكأنها من التراث، وتسير بخطوات بطيئة، يمسك بيدها صبي فى منتصف العقد الثاني من العمر.
على الفور أمر رئيس هيئة المحكمة، بإحضار كرسي حتى تجلس السيدة المُسنة عليه وبسرعة تم إحضاره، كانت عيناها تجوب أنحاء القاعة، وكأنها تبحث عن شيء تفتقده، ونظر إليها القاضي وطلب منها الاستماع إلى حكايتها وقضيتها التي جاءت من أجلها، وقال اطلبي "يا حاجة فاطمة".
انهمرت الدموع من عينيها وكأنها شلال ينحدر من أعلى إلى أسفل على وجنتيها وقالت بصوت يشوبه أنين: منذ سنوات طويلة لا أعرف عددها توفي زوجي، وتركني وكنت لم أتجاوز الرابعة والعشرين من عمري وفي ريعان شبابي، بكيت وصرخت حزنا عليه، وخوفا من المستقبل، وبعد أن عدت إلى منزلي فتشت عبثا في ملابسه قد أجد شيئا ما أقتات به لولداي الصغيرين، وأقسمت أن أكمل مشواري معهما، ولم أتركهما، ورفضت كل الرجال الذين تقدموا لطلب الزواج مني، وكافحت لتربيتهما وقمت بالعمل فى الكثير من الأعمال والمهن لكي أنفق عليهم".
وأضافت، "مر الوقت وسرق الزمن أجمل سنوات عمري، وتقدم بي العمر، ولم أعد أقوى على العمل، وغيرت نشاط عملي وتوجهت إلى العمل في المنازل كي أمكنهما من إكمال تعليمهما، وانتقلت من بيت لآخر أدبر لهم ثمن تعليمهم وملابسهم وأكلهم ونفقات مدارسهم وغيرها من الاحتياجات".
وأضافت السيدة، وكأن الزمن كان يسابقني ومرت سنوات أخرى، وأنهى أبنائي الاثنين التعليم، وعملا بالتجارة، وتزوجا لكنهما نسياني تماما، وتركاني دون مورد رزق بعد أن كبرت وأصبحت غير قادرة على العمل، وعشت على صدقات الجيران وأصحاب القلوب الرحيمة، بينما هما يكنزان الأموال".
وبصوت يشوبه حزن قالت: أنا لا أحسدهما أو أتمنى لهما السوء، كلماتي هذه تخرج وأشعر بألم بعد أن وهبت عمري لهما وتركت كل مغريات الحياة من أجلهما، وهذا واجبي نعم، لكن أين واجبهما ناحيتي هل أتسول أم المفروض أن أموت بسببهما؟ وكل ما أريده هو مبلغ قليل ثمنا لدوائي، وطعامي.
وصمتت السيدة المسنة وبلا مقدمات وقعت من فوق الكرسي مغشيا عليها، ليهرع الجميع خلفها ويحملها ويحاول إفاقتها، ورفع القاضي الجلسة وطلب إحضار طبيب، وسط ذهول الجميع وتعالت، وتعاظمت الدهشة على وجوههم عندما أخبرهم الطبيب بأنها توفيت.
وصعدت روحها إلى بارئها، وانذرفت دموعه بغزارة شديدة، وبالرغم من مرور سنوات عدة على هذه الواقعة إلا أن المستشار أحمد أبو السعود الذي كان قاضيا يترأس هذه الجلسة بمحكمة بني سويف مازال يبكي عندما يتذكر حكاية الست فاطمة.
اقرأ أيضًا..