أسباب نزول آيات «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها»
الأحد 09/مايو/2021 - 10:59 ص
«قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير» [المجادلة 1].
نزلت سورة المجادلة بعد سورة «المنافقون» وقبل سورة «التحريم»، وتسمى سورة (قد سمع) و(سورة الظهار)، وعدد آياتها 22 آية، وهي أولى سور الجزء الثامن والعشرين، وترتيبها الثامنة والخمسون، وهي سورة مدنية، وقد سميت المجادلة لبيان قصة المرأة التي جادلت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهي خولة بنت ثعلبة، وقد تناولت السورة عددًا من الأحكام التشريعية، منها أحكام الظهار.
والظهار هو قول الرجل لامرأته: «أنت عليّ كظهر أمي»، يريد تحريمها على نفسه كما أن أمّه محرّمة عليه؛ يقال: ظاهر من امرأته، أو تظاهر منها، وتظهّر، فحرّم الإسلام ذلك، وأنكره، وجعله منكرًا من القول وزورًا.
كان هذا الظهار في الجاهلية طلاقًا، وكانت العرب تطلّق نساءها في الجاهلية بهذا اللفظ، فأبطل الله تعالى ذلك، وجعل الظهار كلامًا فاحشًا وقولا منكرًا يستوجب الكفارة، وشرع الطلاق عند الحاجة بأسلوب آخر وتفاصيل أخرى ليس هذا محلها.
كان الظهار في الجاهلية تحريمًا للمرأة مؤبّدًا، وعمل به المسلمون في المدينة بعلم من النبي - صلى الله عليه وسلم - وإقراره الناس عليه حتى وقعت حادثة المجادلة. فغير الشرع الشريف حكم الظهار إلى تحريم الزوجة تحريمًا موقتًا فلا تحل له حتى يخرج الكفارة، بعد أن كان مؤبّدًا في الجاهلية، فلا يجوز للمسلم أن يظاهر من زوجته، قال تعالى: «وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا»، فليست الزوجة أمًّا لزوجها، ولن تكون، فكيف يجعلها أمًّا أو كالأم؟ أما من وقع في الظهار ثم عاد، فعليه الكفارة المبينة في كتاب الله تعالى.
قال ابن عباس: «أول من ظاهر من امرأته - أي من المسلمين - أوس بن الصامت أخو عبادة بن الصامت، وامرأته خولة بنت ثعلبة بن مالك، فأنزل الله تعالى: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير».
شكوى إلى الله
افتتحت آيات أحكام الظهار بذكر سبب نزولها، تنويهًا بالمرأة التي وجهت شكواها إلى الله تعالى بأنها لم تقصر في طلب العدل في حقها وحق بنيها، ولم ترض بعنجهية زوجها وتسرّعه إلى ما يفك عقدة الزواج ويبعثر عقد عائلته من دون تبصر ولا روية، وتعليمًا لنساء الأمة الإسلامية، ورجالها واجب الذود عن مصالحها.
روى الإمام أحمد عن خولة بنت ثعلبة قالت: فيَّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة، كنت عنده، وكان شيخًا كبيرًا قد ساء خلقه، فدخل عليّ يومًا فراجعته بشيء فغضب فقال: «أنت عليّ كظهر أمي، ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ثم دخل عليّ فإذا هو يريدني عن نفسي، قلت: كلا والذي نفس خويلة بيده، لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت، حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه، فواثبني فامتنعت بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف، فألقيته عني، ثم خرجت إلى بعض جاراتي، فاستعرت منها ثيابًا، ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجلست بين يديه فذكرت له ما لقيت منه، وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه، قالت: فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه». قالت: فوالله ما برحت حتى نزل فيَّ القرآن، فتغشى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما كان يتغشاه ثم سرّي عنه فقال لي: «يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآنًا» ثم قرأ عليّ (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير، الذين يظاهرون منكم من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلاّ اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرًا من القول وزورًا وإن الله لعفو غفور، والذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا ذلكم توعظون به والله بما تعملون خبير، فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينًا ذلك لتؤمنوا بالله ورسوله وتلك حدود الله وللكافرين عذاب أليم).
تعاون على الخير
وتتابع خولة: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مريه فليعتق رقبة»، قالت: فقلت يا رسول الله ما عنده ما يعتق، قال: «فليصم شهرين متتابعين»، قالت: فقلت: والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام. قال: «فليطعم ستين مسكينًا وسقًا من تمر»، قالت: فقلت: والله ما ذاك عنده، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: فإنّا سنعينه بفرق من تمر، قالت: فقلت يا رسول الله وأنا سأعينه بفرق آخر، قال: «قد أصبت وأحسنت، فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيرًا، قالت: ففعلت».
وفي الحديث الصحيح قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة ويخفى عليّ بعضه وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهي تقول: يا رسول الله أبلى شبابي ونثرت له بطني حتى إذا كبرت سني وانقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبريل عليه السلام بهذه الآيات: (قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله)».
خولة وعمر
وتعليقًا على ما فعلته السيدة خولة تقول أم إسراء بنت عرفة بيومي في كتابها «نساء لها تاريخ»: «هكذا تشتكي المؤمنة الصابرة على أذى زوجها لكبر سنّه، ويكرمها الله بسماع شكواها وإنزال آيات في كتاب الله لا يسجلها التاريخ فقط، بل ستظل تُتلى إلى قيام الساعة، وقد علم صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم لها هذا الفضل والتكريم».
عن قتادة، قال: «خرج عمر من المسجد ومعها الجارود العبدي فإذا بامرأة برزت على ظهر الطريق، فسلّم عليها عمر فردت عليه السلام وقالت: هيهات يا عمر عهدتك وأنت تُسمّى عميرًا في سوق عكاظ ترعى الضأن بعصاك، فلم تذهب الأيام حتى سُمّيت عمر، ثم لم تذهب الأيام حتى سُمّيت أمير المؤمنين، فاتق الله في الرعية، واعلم أنه من خاف الوعيد قرب عليه البعيد، ومن خاف الموت خشي عليه الفوت، فقال الجارود: قد أكثرت أيتها المرأة على أمير المؤمنين، فقال عمر: دعها أما تعرفها؟ فهذه خولة امرأة أوس بن الصامت التي سمع الله قولها من فوق سبع سماوات، فعمر والله أحق أن يسمع لها.