تخاصم المدارس والنظريات.. بولين كايل أشهر «ناقدة سينمائية في العالم» (1-2)
الأحد 28/فبراير/2021 - 03:21 م
إسلام علام
في العقود الأخيرة من حياة البشر، والأولى من حياة السينما، بمجرد أن ينتهي المرء من مشاهدة فيلمًا يبدأ معه التساؤل -والذي اعتبر "متلازمة" في العالم وقتئذ-، "ماذا قالت عنه بولين كايل، وما تقييمها له؟"
وما زال معظم جمهور السينما يتلهف لمعرفة آراء الآخرين في الأفلام، وإن جرى مؤخرًا بعض التغييرات في الوسائل، كحال كل المجالات، حيث عصر الرقمية والمدونات ومواقع التواصل الاجتماعي، والذي جعل من الجميع نقادًا وفقًا لقول المختصين والأكاديميين، فحاليًا عندما ينتهي الجمهور من مشاهدة فيلم، فيبدأ بالبحث عن التقييم الرقمي على الموقع العالمي "Rottentomatoes".
ويرجع سر قوة الناقدة الأهم والأشهر في العالم بولين كايل وتفوقها وتميزها الحقيقي في أنها أبعد ما يكون عن التوقعات، لذا دومًا ما كان الجمهور يهتم بمعرفة "ماذا قالت؟".
وفي أحداث فيلمه الأخير "I’m Thinking of Ending Things" الذي عرض مؤخرًا على منصة «نتفليكس»، يقدم المخرج والمؤلف العبقري تشارلي كوفمان تحية درامية للناقدة الأميركية الأكثر إثارة للجدل في القرن العشرين بولين كايل، ما تسبب في إعادة اسم هذه الناقدة للأضواء مرة أخرى بعد ما يقرب من عقدين على وفاتها.
وتُعد التحية التي قدمها كوفمان هي الأولى من نوعها كي تقدمها السينما لناقدة، ليس لـبولين كايل وحدها، بل للنقد السينمائي عامةً.
ولا يعرف عنها الجيل الحالي أكثر من كونها الناقدة التي تتلمذ على كتاباتها ألمع المخرجين المعاصرين من "كوينتن تارانتينو" لـ "ويس أندرسون".
ويشاع أيضًا إنها الناقدة التي أنهت حياة المخرج ديفد لين المهنية بمقال لاذع في السبعينيات، والتي فقدت وظيفتها بمجلة مكالز حين هاجمت فيلم The Sound of Music وقت كان يحطم أرقامًا قياسية، وهي الناقدة التي امتلكت الشجاعة لتقول إنها لم تحب أفلام سينما الحداثة الأوروبية لأنطونيوني وفيلليني وآلان رينيه في وقت كانوا يُعبدون، ويمكن الجدل بأنها الناقِدة التي ألهمت موجة أفلام السبعينيّات التي غيرت شكل السينما الأميركية للأبد.
"ماذا قالت؟"، سؤال كان معتادًا ومشهورًا بين مهاويس الأفلام في أميركا منذ فترة الستينيات، لدرجة أن الفيلم الوثائقي الذي يعرض حياة بولين اختار عنوانه "نفس السؤال"، وكثيرًا منا فكر في السؤال نفسه أثناء متابعة فيلم كوفمان الأخير، ماذا كانت ستقول عنه كايل؟، ربما أحبته أو كرهته، ولكنها توفيت قبل أن ترى رسالتها تتحقق ولتثبت أن النقد السينمائي قادر أن يصبح فنًا، جمل خالدة يمكن اقتباسها وتداول مقتطفات منها، كالشعر والرواية بهذا الشكل الذي شاهدناه بالفيلم.
حسب بعض أقوال الباحثين أنه كايل حاولت من قبل مرة واحدة في حياتها أن تكون جزءًا من الأفلام، وذلك عندما قبلت دعوة النجم وارين بيتي لتعمل استشارية في استوديوهات بارامونت، في هوليوود، أوائل الثمانينيات، لكن كايل ملت من هذه الحياة بسرعة، ولم تطل الوظيفة أكثر من بضعة أسابيع حتى استقالت وعادت لنيويورك لتكتب مقالًا بعنوان: "لماذا أصبحت الأفلام رديئة؟"، وكان مستلهمًا من تجربتها داخل "مطبخ صناعة السينما" كما يطلقون عليه.
كانت ترفض أحيانًا وصفها كناقدة، فتقول، "أنا كاتبة موضوع اهتمامها الأفلام"، وفي مناسبات أخرى كانت تدافع عن النقد ضد أشهر تهمة وهي "الطفيلية"، فتقول، أعزائي كاتبي الخطابات غير الممضية، إذا كنتم تظنون أن من السهل على المرء أن يكون ناقدًا، ومن الصعب أن يكون رسامًا أو مخرجًا أو شاعرًا، فأقترح عليكم أن تجربوا الأمرين، حينئذ ستفهمون لماذا توجد قلة من النقاد وكثرة من الشعراء".
ويعتبر دارسو حالة بولين كايل أن واحدة من أكبر المعارك الفكرية التي خاضتها كانت ضد نظرية سينما المؤلف Auteur Theory لمعاصرها الناقد الأميركي أندرو ساريس، وطالما تراشق وتشاتم الناقدان بالكتابات بسبب هذا الخلاف، فكايل رفضت تلك النظرية في مقالها الشهير "دوائر ومربعات 1963"، والرفض لثلاثة أسباب متعلقة بالفن: أولًا تتجاهل النظرية أن العمل التعاوني هو جوهر الوسيط السينمائي، ثانيًا أن نظرية المؤلف تضفي أهمية على اسم المخرج تفوق العمل نفسه، ثالثًا أن التميز لدى شخص المخرج يجب ألا يكون معيارًا للجودة، فتقول "فرائحة الظربان أسهل في تمييزها من رائحة الزهور، فهل يعني ذلك أن الأولى في مرتبة أفضل من الثانية؟!".
لكن بجانب تلك الأسباب الفنية لرفض نظرية ساريس كان لديها سبب متعلق بالنقد، فهي رافضة لمبدأ أن يكون للفن أو النقد نظريات من الأصل، لذا تقول، "يبدو أن هؤلاء النقاد من أمثال ساريس الذين يطالبون بمعايير موضوعية لتقييم الأفلام، يريدون نظرية في النقد تجعل الناقد لا ضرورة له، وبالفعل يمكن الاستغناء عنه إذا أخذنا بالنظرية مكان التجربة الذاتية".
كانت "بولين" مدركة أن رؤيتها للأفلام من خلال ذاتها وتجربتها الشخصية هو ما ميزها عن معاصريها من النقاد، في مراجعاتها للأفلام، ويمكنك أن تقرأ تعليقًا قاله متفرج يجلس بجوارها في الصالة، أو تفاصيل عن روتين يومها قبل وبعد مشاهدة الفيلم، أو قصصًا من حياتها الشخصية تتقاطع مع الأفلام التي تراجعها، لعل المثال الأبرز هو مراجعتها لفيلم Shoe shine للإيطالي فيتوريو دي سيكا، إذ سبق المشاهدة خلاف غرامي مع حبيبها.
وخرجت "بولين" من صالة العرض تبكي ولا تعرف إن كانت أحداث الفيلم الحزينة هي سبب دموعها أم خسارتها العاطفية، وعلمت بعدها أن حبيبها قد شاهد الفيلم في نفس الليلة وخرج يبكي كذلك، وتتابع: "رغم ذلك فالدموع التي ذرفناها من أجل الفيلم ومن أجل بعضنا البعض، لم تقربنا من بعضنا، فالحياة كما يصورها لنا فيلم ماسح الأحذية على درجة كبيرة من التعقيد ما لا يجعلها تنتهي النهاية السهلة البسيطة".
لم يكن ذلك الحال في كل المراجعات التي كتبتها، حيث اهتمت في بعضها على سبيل المثال بخلفيات العمل الاجتماعية، وأحيانًا بالأمور التقنية والصورة والألوان، وذلك يظهر بوضوح في مراجعتها لفيلم The God father والطريقة التي تناولت بها أعمال المخرج بريان دي بالما تحديدًا كان بها الكثير من نظرية سينما المؤلف التي رفضتها في السابق.
وهذا مما يعني أن نقدها لم يخاصم النظريات والمدارس المختلفة كما تدعي لكنه كان تعدديا، يفرض فيه الفيلم على الناقد النظرية أو النظريات الأنسب لتناوله.
وهذه التعددية وصفت من قبل بعض النقاد بالانطباعية، لأن المبادئ بدت كثيرة ومتناقضة فيما بينها، و"بوريل" كانت لا تحب وصف انطباعية، وتراه وصفًا متعلقا بهويتها الجنسية كسيدة، في وقت كان الوسط الثقافي لم يتحرر بعد من نظرته للمرأة ككائن قاصر عقليًا، يشعر أكثر مما يفكر ويحلل، لذا كانت النساء يحظين بالتقدير الأدبي لو كتبن قصصًا وأشعارًا، إنما لا ينظر لهن بجدية لو كتبن نقدًا.
وكانت تعذر من يفكرون بتلك الطريقة، لأن النساء العاملات في هذا المجال وقتها كن دون المستوى بالفعل، تقول، معظمهن كان يعين في الصحف والمجات بالوساطة والعلاقات، وكانت كتاباتهن فارغة أقرب لعواميد النميمة، لذا فحين يبرز اسم نسائي جاد في مجال النقد يستسهلون وصفه بالانطباعية، وهي لم تر أن هناك فارقًا بين الفكرة والانطباع إن لم تكن الثانية نتيجة للأولى، فلا يوجد خط مرئي يفصل بين العقل كمصدر لفكرة والغريزة كمصدر انطباع.