بقلم أنس الرشيد: أبو دجانة يرقص في حمام المترو
أظنُّ أنَّ وثيقةَ المدينة التي عقدها المسلمون لسكان يثرب كانت مرحلة تحول في المعنى، إذ أوجدت للعرب مفهومًا جديدًا للعمل والتنظيم المدني، وهذا التحول مدهش في أوله، ومبهر لمن كان يُمكن أن يفهمه وينتظم فيه ليطوره ويصنع منه تحولات واقعية محسوسة؛ وربما هذا ما يجعل المدينة وتاريخ الوعي العربي بعدها هو تاريخ الانتظام، انتظام في الحرب والصلح، وفي السلوك التعبّدي الجماعي ثم الانتظام في المنجز والنتيجة. لكن هذا التحول في انتظام الجماعة يجلب معه سؤال: ماذا يحدث للفرد حين لا يستطيع أن يكون جزءًا من البناءِ والانتظام؟ السؤال لا يعني الخروج الممنهج كما يفعل خارجيٌ، أو يفعل مطرود من قبيلة. إنَّما المراد عدم الاستطاعة على الانتظام مع وجود الفرد داخل النظام، مثل شخص اسمه «سماك بن خَرَشة» يُعرف بأبي دجانة الأنصاري، كان خروجه من الانتظام علامة مدهشة؛ لأنَّه تجربة فردية في المعنى.
أبو دجانة كان فقيرًا لا يملك إلا قوةَ جسده، حين كان في إحدى المعارك رأى القائد يرفع سيفًا ويقول: «من يأخذه بحقه»؟ الجميع يفترض أنهم يعرفون حقَ السيف إذ لم يطلبوا الإيضاح، إلا أبو دجانة قال: وما حقه؟ ولما أُخبر بحقه، أخذه وعصبَ عمامته الحمراء التي تُشبه دم الأعداء، وراح يتبختر بين الصفوف كأنَّه يؤدي الرقصةَ الأخيرة. لمَّا رأى القائدُ فعلَ أبي دجانة اندهش وقال «هذا فعل يبغضه الله إلا في هذا الموضع»، وكأنَّ القائد رأى خروجًا من الانتظام، وبدل أن يغضب اندهشَ وطَرب، وكأنّ -أيضًا- هذا الفعل علامة واقعيّة على أنَّ أبا دجانة لا يملك إلا جسده، ففي رقصته الحربية إعلان الجسد عن ذاته في حضرة النظام والجماعة، فهو الوحيد الذي فعل فعلًا يُبغضه الله في معركةِ في سبيل الله، وكأنَّها رقصةَ اعتراف، رقصةَ رجل فقير معدم يُريد أن يُرى وسطَ نظامٍ كامل يطلب من الجميع أن يتحركوا ضمن الخطة الموحّدة.
بعد قرونٍ طويلة سيعود هذا الجسد الراقص في صورةِ الجوكر، الإنسان الحديث الذي لم يعد له نظام يمنحه المكان المُعترف به، فحين خرج آثر فليك (الجوكر) إلى العالم كان كأبي دجانة فقيرًا معدمًا يبحث عن مكانٍ في منظومةٍ لا تراه، وقد رقصَ آرثر ثلاث رقصات ليقول لنا جسده «كيف ينتهي المعنى»؟ الرقصة الأولى رقصة الغرفة، غرفته الضيقة في البيت، أمام مرآته يشدّ شفتيه إلى الأعلى بأصابعه ليجبر وجهَه على الاندماج والرضى، وقد كان أبو دجانة -ومعه رجلان- هم الفقراء من بين الأنصار، وكأنَّهم كانوا يشدّون شفاههم ليرضوا ببعضِ الغنائم التي تُعطى لهم بعد الحروب، وكما أنَّ أبا دجانة سيعصب عمامتَه الحمراء ليعلن ذاته وسط جيش منتظم فإنَّ آرثر يعصب وجهه بمساحيق ليتميز بها، لكنَّ المدينة لا ترى إلا من يُشبهها، وهنا مفارقة البصير الأعمى. الرقصة الثانية رقصة الحمّام، فبعد أن قتلَ آرثر ثلاثةَ شبّان في المترو يهرب إلى حمَّام عمومي وهناك تتغير الأضواء وتتراقص الموسيقى وينقلب الزمن، فالجسد الذي كان ينكمش من القمع يتمدَّد الآن في الحمّام كأنَّه اكتشف عالمه الداخلي، أو كأنَّه يُولد من ذاته، وهي اللحظة التي تُشبه قرار عصب العمامة لأبي دجانة ثم لبسها ومعه سيف القائد الذي أخذه دونًا عن الجميع ففي لمعانه وبريقه مرآة كمرآةِ آرثر تعكس الوجه وتؤكد حضوره. الرقصة الثالثة رقصة السلّم، فحين ينزل آرثر من سلّم الحيّ في نهايةِ الفيلم تكون المدينةُ قد انقلبت من نظامٍ يخنقه إلى فوضى تُشبه أقنعتَه ومساحيقه، وصوته الداخلي يتحول إلى موسيقى خارجية: (رقص حر وجسد يبتكر الإيقاع بنفسه) هذه الرقصة هي التتويج في لحظة المجد القاتل التي توازي رقصةَ أبي دجانة بين الصفوف أثناء المعركة، الرقصةَ الحرة التي ابتكر إيقاعَها بنفسه، وكلا الرقصتين في موضع يبغضه الله -موضع الغرور- لكنَّه الموضع الوحيد الذي تتجسّد فيه الذات.
التفاتة:
ربما أنَّ التاريخ لا يجد سوى الأغنية تشرح إيقاعَه المختلّ، ففي حرب أبي دجانة كانت هند ومعها النساء يغنين: «إن تقبلوا نعانق/ ونفرش النمارق. أو تدبروا نفارق/ فراق غير وامق» وفي حرب آرثر كانت المدينة تُغني: «that’s life» لكنَّها في الرقصة الأولى كانت الأغنية لصالح النظام، وفي الثانية لصالح آرثر، كأنَّ الأغنية في الرقصة الأولى كالبيت الأول لهند وفي الثانية كالبيت الثاني.